( لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) : بدئ بالنهي ؛ لأنه من باب التروك ، فهو أسهل . ثم أتي بالأمر بعده الذي هو أشق لحصول الاستئناس قبل النهي . ثم لم يكن نهيا عن شيء سبق تحريمه ، ولكن لما كانت لفظة المفاعلة تقتضي الاشتراك غالبا ، فصار المعنى : ليقع منك رعي لنا ومنا رعي لك ، وهذا فيه ما لا يخفى مع من يعظم نهوا عن هذه اللفظة لهذه العلة ، وأمروا بأن يقولوا : انظرنا ، إذ هو فعل من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا مشاركة لهم فيه معه . وقراءة الجمهور : ( راعنا ) . وفي مصحف عبد الله وقراءته ، وقراءة أبي : راعونا ، على إسناد الفعل لضمير الجمع . وذكر أيضا أن في مصحف عبد الله : ارعونا . خاطبوه بذلك إكبارا وتعظيما ، إذ أقاموه مقام الجمع . وتضمن هذا النهي النهي عن كل ما يكون فيه استواء مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقرأ الحسن ، ، وابن أبي ليلى وأبو حيوة ، وابن محيصن : راعنا بالتنوين ، جعله صفة لمصدر محذوف ، أي قولا راعنا ، وهو على طريق النسب كلابن وتامر . لما كان القول سببا في السب ، اتصف بالرعن ، فنهوا في هذه القراءة عن أن يخاطبوا الرسول بلفظ يكون فيه أو يوهم شيئا من الغض مما يستحقه - صلى الله عليه وسلم - من التعظيم وتلطيف القول وأدبه .
وقد ذكر أن سبب نزول هذه الآية أن اليهود كانت تقصد بذلك - إذ خاطبوا رسول الله [ ص: 339 ] صلى الله عليه وسلم - الرعونة ، وكذا قيل في راعونا ، إنه فاعولا من الرعونة ، كعاشورا . وقيل : كانت لليهود كلمة عبرانية ، أو سريانية يتسابون بها وهي : راعينا ، فلما سمعوا بقول المؤمنين راعنا ، اقترضوه وخاطبوا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يعنون تلك المسبة ، فنهي المؤمنون عنها ، وأمروا بما هو في معناها . ومن زعم أن ( راعنا ) لغة مختصة بالأنصار ، فليس قوله بشيء ؛ لأن ذلك محفوظ في جميع لغة العرب . وكذلك قول من قال : إن هذه الآية ناسخة لفعل قد كان مباحا ؛ لأن الأول لم يكن شرعا متقررا قبل . وقيل في سبب نزولها غير ذلك . وبالجملة ، فهي كما قال : كلمة كرهها الله أن يخاطب بها نبيه ، كما قال - صلى الله عليه وسلم : " محمد بن جرير " . وذكر في النهي وجوه : أن معناها اسمع لا سمعت ، أو أن أهل لا تقولوا عبدي وأمتي ، وقولوا فتاي وفتاتي ، ولا تسموا العنب الكرم الحجاز كانوا يقولونها عند المفر ، قاله قطرب ، أو أن اليهود كانوا يقولون : راعينا أي راعي غنمنا ، أو أنه مفاعلة فيوهم مساواة ، أو معناه راع كلامنا ولا تغفل عنه ، أو لأنه يتوهم أنه من الرعونة . وقوله : انظرنا ، قراءة الجمهور ، موصول الهمزة ، مضموم الظاء ، من النظرة ، وهي التأخير ، أي انتظرنا وتأن علينا ، نحو قوله :
فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب
أو من النظر ، واتسع في الفعل فعدي بنفسه ، وأصله أن يتعدى بإلى ، كما قال الشاعر :ظاهرات الجمال والحسن ينظر ن كما ينظر الأراك الظباء
يريد : إلى الأراك ، ومعناه : تفقدنا بنظرك . وقال مجاهد : معناه فهمنا وبين لنا ، فسر باللازم في الأصل ، وهو انظر ؛ لأنه يلزم من الرفق والإمهال على السائل ، والتأني به أن يفهم بذلك . وقيل : هو من نظر البصيرة بالتفكر والتدبر فيما يصلح للمنظور فيه ، فاتسع في الفعل أيضا ، إذ أصله أن يتعدى بفي ، ويكون أيضا على حذف مضاف ، أي انظر في أمرنا . قال ابن عطية : وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال ، وهذا هو معنى : راعنا ، فبدلت للمؤمنين اللفظة ، ليزول تعلق اليهود . انتهى . وقرأ أبي : أنظرنا ، بقطع الهمزة وكسر الظاء ، من الإنظار ، ومعناه : أخرنا وأمهلنا حتى نتلقى عنك . وهذه القراءة تشهد للقول الأول في قراءة الجمهور . والأعمش
( واسمعوا ) : أي سماع قبول وطاعة . وقيل : معناه اقبلوا . وقيل : فرغوا أسماعكم حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة . وقيل : اسمعوا ما أمرتم به حتى لا ترجعوا تعودون إليه . أكد عليهم ترك تلك الكلمة . وروي أن سمعها منهم فقال : يا أعداء الله ، عليكم لعنة الله ، فوالذي نفسي بيده ، لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأضربن عنقه . سعد بن معاذ
( وللكافرين عذاب أليم ) : ظاهره العموم ، فيدخل فيه اليهود . وقيل : المراد به اليهود ، أي ولليهود الذين تهاونوا بالرسول وسبوه . ولما نهى أولا ، وأمر ثانيا ، وأمر بالسمع وحض عليه ، إذ في ضمنه الطاعة ، أخذ يذكر لمن خالف أمره وكفر ، ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) .
( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين ) : ذكر المفسرون أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود : آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : وددنا لو كان خيرا مما نحن عليه فنتبعه ، فأكذبهم الله بقوله : ( ما يود الذين كفروا ) ، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب : الذين بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والظاهر ، العموم في أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى ، وفي المشركين ، وهم مشركو العرب وغيرهم ، ونفى بما ، لأنها لنفي الحال ، فهم ملتبسون بالبغض والكراهة أن ينزل عليكم . ومن في قوله : من أهل الكتاب ، تبعيضية ، فتتعلق بمحذوف ، أي كائنين من أهل الكتاب . ومن أثبت [ ص: 340 ] أن من تكون لبيان الجنس قال ذلك هنا ، وبه قال ، وأصحابنا لا يثبتون كونها للبيان . الزمخشري