على ملك : متعلق بتتلو ، وتلا يتعدى بعلى إذا كان متعلقها يتلى عليه لقوله : يتلى على زيد القرآن ، وليس الملك هنا بهذا المعنى ؛ لأنه ليس شخصا يتلى عليه ، فلذلك زعم بعض النحويين أن على تكون بمعنى في ، أي تتلو في ملك سليمان . وقال أصحابنا : لا تكون " على " في معنى " في " ، بل هذا من التضمين في الفعل ضمن تتقول ، فعديت بعلى لأن تقول : تعدى بها ، قال تعالى : ( ولو تقول علينا ) ومعنى : ( على ملك سليمان ) ، أي شرعه ونبوته وحاله . وقيل : على عهده ، وفي زمانه ، وهو قريب . وقيل : على كرسي سليمان بعد وفاته ؛ لأنه كان من آلات ملكه . وفسروا ما يتلو الشياطين بالسحر ، قالوا : وهو الأشهر والأظهر على ما نقل في أسباب النزول ، من أن الشياطين كتبت السحر واختلقته ونسبته إلى سليمان وآصف . وقيل : الذي تلته هو الكذب الذي تضيفه إلى ما تسترق من أخبار السماء ، وأضافوا ذلك إلى سليمان تفخيما لشأن ما يتلونه ؛ لأن الذي كان معه من المعجزات ، وإظهار الخوارق ، وتسخير الجن والإنس ، وتقريب المتباعدات ، وتأليف الخواطر ، وتكليم العجماوات ، كان أمرا عظيما . والساحر يدعي أشياء من هذا النوع : من تسخير الجن ، وبلوغ الآمال ، والتأثير في الخواطر ، بل ويدعي قلب الأعيان على ما يأتي في الكلام على السحر في قوله تعالى : ( يعلمون الناس السحر ) ، أو لأنهم كانوا يزعمون أن ملك سليمان إنما حصل بالسحر . وقد ذكر المفسرون في كيفيات ما رتبوه من هذا الذي تلوه قصصا كثيرة ، الله أعلم به ، ولم تتعرض الآية الكريمة ، ولا الحديث المسند الصحيح لشيء منه ، فلذلك لم نذكره .
( وما كفر سليمان ) : تنزيه لسليمان عن الكفر ، أي ليس ما اختلقته الجن من نسبة ما تدعيه إلى سليمان تعاطاه سليمان ؛ لأنه كفر ، ومن نبأه الله تعالى منزه عن المعاصي الكبائر والصغائر ، فضلا عن الكفر . وفي ذلك دليل على صحة نفي الشيء عمن لا يمكن أن يقع منه ؛ لأن النبي لا يمكن أن يقع منه الكفر ، ولا يدل هذا على أن ما نسبوه إلى سليمان من السحر يكون كفرا ، إذ يحتمل أنهم نسبوا إليه الكفر مع السحر . وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر سليمان في الأنبياء قال بعض اليهود : انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء ، وما كان إلا ساحرا . ولم يتقدم في الآيات أن أحدا نسب سليمان إلى الكفر ، ولكنها آية نزلت في السبب المتقدم أن اليهود نسبته إلى السحر والعمل به .
( ولكن الشياطين كفروا ) : كفرهم ، إما بتعليم السحر ، وإما تعلمهم به ، وإما بتكفيرهم سليمان به ، ويحتمل أن يكون كفرهم بغير ذلك . واستعمال لكن هنا حسن ، لأنها بين نفي وإثبات . وقرئ : ولكن بالتشديد ، فيجب إعمالها ، وهي قراءة نافع وعاصم وابن كثير وأبي عمرو . [ ص: 327 ] وقرئ : بتخفيف النون ورفع ما بعدها بالابتداء والخبر ، وهي قراءة ابن عامر وحمزة . وإذا خففت ، فهل يجوز إعمالها ؟ مسألة خلاف . الجمهور على المنع ، ونقل والكسائي أبو القاسم بن الرماك عن يونس جواز إعمالها ، ونقل ذلك غيره عن الأخفش ، والصحيح المنع . وقال الكسائي : الاختيار ، التشديد إذا كان قبلها واو ، والتخفيف إذا لم يكن معها واو ، وذلك لأنها مخففة تكون عاطفة ولا تحتاج إلى واو معها . كبل ، فإذا كانت قبلها واو لم تشبه بل ؛ لأن بل لا تدخل عليها الواو ، فإذا كانت لكن مشددة عملت عمل إن ، ولم تكن عاطفة . انتهى الكلام . وهذا كله على تسليم أن لكن تكون عاطفة ، وهي مسألة خلاف ، الجمهور على أن لكن تكون عاطفة . وذهب والفراء يونس إلى أنها ليست من حروف العطف ، وهو الصحيح لأنه لا يحفظ ذلك من لسان العرب ، بل إذا جاء بعدها ما يوهم العطف ، كانت مقرونة بالواو كقوله تعالى : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله ) . وأما إذا جاءت بعدها الجملة ، فتارة تكون بالواو ، وتارة لا يكون معها الواو ، كما قال زهير :
إن ابن ورقاء لا تخشى بوادره لكن وقائعه في الحرب تنتظر
وأما ما يوجد في كتب النحويين من قولهم : ما قام زيد لكن عمرو ، وما ضربت زيدا لكن عمرا ، وما مررت بزيد لكن عمرو ، فهو من تمثيلهم ، لا أنه مسموع من العرب . ومن غريب ما قيل في لكن : أنها مركبة من كلم ثلاث : لا للنفي ، والكاف للخطاب ، وأن التي للإثبات والتحقيق ، وأن الهمزة حذفت للاستثقال ، وهذا قول فاسد ، والصحيح أنها بسيطة .
( يعلمون الناس السحر ) : الضمير في يعلمون اختلف في من يعود عليه ، فالظاهر أنه يعود على الشياطين ، يقصدون به إغواءهم وإضلالهم ، وهو اختيار . وعلى هذا تكون الجملة في موضع الحال من الضمير في كفروا . قالوا : أو خبرا ثانيا . وقيل : حال من الشياطين . ورد بأن لكن لا تعمل في الحال ، وقيل : بدل من كفروا ، بدل الفعل من الفعل ؛ لأن تعليم الشياطين السحر كفر في المعنى . والظاهر أنه استئناف إخبار عنهم . وقيل : الضمير عائد على الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين . على اختلاف المفسرين فيمن يعود عليه ضمير اتبعوا ، فيكون المعنى : يعلم المتبعون ما تتلو الشياطين الناس ، فالناس معلمون للمتبعين . وعلى القول الأول يكونون معلمين للشياطين . الزمخشري
واختلف في على أقوال : الأول : أنه قلب الأعيان واختراعها وتغيير صور الناس مما يشبه المعجزات والكرامات ، كالطيران وقطع المسافات في ليلة . الثاني : أنه خدع ومخاريق وتمويهات وشعوذة لا حقيقة لها ، ويدل عليه ، ( حقيقة السحر يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) . وفي الحديث ، حين لبيد بن الأعصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله " . وهو قول سحر المعتزلة : يرون أن السحر ليست له حقيقة ، ووافقهم أبو إسحاق الإستراباذي من الشافعية . الثالث : أنه أمر يأخذ بالعين على جهة الحيلة ، ومنه : ( سحروا أعين الناس ) ، كما روي أن حبالهم وعصيهم كانت مملوءة زئبقا ، فسجروا تحتها نارا ، فحميت الحبال والعصي ، فتحركت وسعت . ولأرباب الحيل والدك والشعوذة من هذا أشياء ، يبين كثير منها في الكتاب المسمى بكشف الدك والشعوذة وإيضاح الشك ، وفي كتاب إرخاء الستور والكلل في الشعوذة والحيل ) . وفي الحديث حين انشق القمر نصفين بمكة ، قال أبو جهل : اصبروا حتى يأتي أهل البوادي ، فإن لم يخبروا بذلك كان محمد قد سحر أعيننا ، فأتوا فأخبروا بذلك ، فقال : ما هذا إلا سحر عظيم . الرابع : أنه نوع من خدمة الجن ، وهم الذين استخرجوه من جنس لطيف أجسامهم وهيئاتها ، فلطف ودق وخفي . الخامس : أنه مركب من أجسام تجمع وتحرق ، وتتخذ منها أرمدة ومداد ، ويتلى عليها أسماء وعزائم ، ثم تستعمل [ ص: 328 ] فيما يحتاج إليها من السحر . السادس : أن أصله طلسمات وقلفطريات ، تبنى على تأثير خصائص الكواكب ، كتأثير الشمس في زئبق عصى فرعون ، أو استخدام الشياطين لتسهيل ما عسر . السابع : أنه مركب من كلمات ممزوجة بكفر . قال بعض معاصرينا : هذه الأقوال كلها التي قالوها في حقيقة السحر أنواع من أنواع السحر ، وقد ضم إليها أنواع أخر من الشعبذة والدك والنارنجيات والأوفاق والعزائم وضروب المنادل والصرع ، وما يجري مجرى ذلك . انتهى كلامه . ولا يشك في أن السحر كان موجودا ، لنطق القرآن والحديث الصحيح به . وأما في زماننا الآن ، فكلما وقفنا عليه في الكتب ، فهو كذب وافتراء ، لا يترتب عليه شيء ، ولا يصح منه شيء ألبتة . وكذلك العزائم وضرب المندل ، والناس الذين يعتقد فيهم أنهم عقلاء ، يصدقون بهذه الأشياء ، ويصغون إلى سماعها . وقد رأيت بعض من ينتمي إلى العلم ، إذا أفلس ، وضع كتبا وذكر فيها أشياء من رأسه ، وباعها في الأسواق بالدراهم الجيدة . وقد أطلق اسم السحر بعض العلماء على الوشي بين الناس بالنميمة ؛ لأن فيه قلب الصديق عدوا ، والحبيب بغيضا . كما أطلق على حسن التوسل باللفظ الرائق العذب ، لما فيه من الاستمالة ، وسمي سحرا حلالا . وقد روي : ، وقال : إن من البيان لسحرا
وحديثها السحر الحلال لو انه لم يجن قتل المسلم المتحرز
وظاهر قوله : ( يعلمون الناس السحر ) : أنهم يفهمونهم إياه بالإقراء والتعليم . وقيل : المعنى يدلونهم على تلك الكتب ، فأطلق على الدلالة تعليما ، تسمية للمسبب بالسبب . وقيل : المعنى يوقرون في قلوبهم أنها حق ، تضر وتنفع ، وأن سليمان إنما تم له ما تم بذلك ، وهذا أيضا تسمية للمسبب بالسبب . وقيل : يعلمون معناه يعلمون ، أي يعلمونهم بما يتعلمون به السحر ، أو بمن يتعلمون منه ولم يعلموهم ، فهو من باب الإعلام لا من باب التعليم . وأما ، فما كان منه يعظم به غير الله من الكواكب والشياطين ، وإضافة ما يحدثه الله إليها ، فهو كفر إجماعا ، لا يحل تعلمه ولا العمل به . وكذا ما قصد بتعلمه سفك الدماء ، والتفريق بين الزوجين والأصدقاء . وأما إذا كان لا يعلم منه شيء من ذلك ، بل يحتمل ، فالظاهر أنه لا يحل تعلمه ولا العمل به . وما كان من نوع التحيل والتخييل والدك والشعبذة ، فإن قصد بتعليمه العمل به والتمويه على الناس ، فلا ينبغي تعلمه ؛ لأنه من باب الباطل . وإن قصد بذلك معرفته لئلا تتم عليه مخايل السحرة وخدعهم ، فلا بأس بتعلمه ، أو اللهو واللعب ، وتفريج الناس على خفة صنعته فيكره . روي : حكم السحر لست من دد ولا دد مني . وأما سحر البيان ، فما أريد به تأليف القلوب على الخير ، فهو السحر الحلال ، أو ستر الحق ، فلا يجوز تعلمه ولا العمل به . وأما حكم الساحر حدا وتوبة ، فقد تعرض المفسرون لذلك ، ولم تتعرض إليه الآية ، وهي مسألة موضوعها علم الفقه ، فتذكر فيه .
( وما أنزل ) : ظاهره أن ما موصول اسمي منصوب ، وأنه معطوف على قوله : السحر ، وظاهر العطف التغاير ، فلا يكون ما أنزل على الملكين سحرا . وقيل : هو معطوف على ما تتلو الشياطين ، أي واتبعوا ما تتلو الشياطين والذي أنزل ، وظاهره أن ما علموه الناس ، أو ما اتبعوه هو منزل . واختلف في هذا المنزل الذي علم ، أو الذي اتبع فقيل : علم السحر أنزل على الملكين ابتلاء من الله للناس ، من تعلمه منهم وعمل به كان كافرا ، ومن تجنبه أو تعلمه لا يعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمنا ، كما ابتلي قوم طالوت بالنهر ، وهذا اختيار . وقال الزمخشري مجاهد وغيره : المنزل هو الشيء الذي يفرق به بين المرء وزوجه ، وهو دون السحر . وقيل : السحر ليعلم على جهة التحذير منه ، والنهي عنه ، والتعليم على هذا القول إنما هو تعريف يسير بمبادئه . وقيل : " ما " في موضع جر عطفا على " ملك سليمان " ، والمعنى : افتراء على ملك سليمان ، وافتراء على ما أنزل [ ص: 329 ] على الملكين ، وهو اختيار أبي مسلم ، وأنكر أن يكون الملكان نازلا عليهما السحر ، قال : لأنه كفر ، والملائكة معصومون ، ولأنه لا يليق بالله إنزاله ، ولا يضاف إليه ؛ لأن الله يبطله ، وإنما المنزل على الملكين الشرع ، وإنهما كانا يعلمان الناس ذلك . وقيل : " ما " حرف نفي ، والجملة معطوفة على ( وما كفر سليمان ) ، وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل وميكال بالسحر ، فنفى الله ذلك .
( على الملكين ) : قراءة الجمهور بفتح اللام ، وظاهره أنهما ملكان من الملائكة ، وقد تقدم الكلام على الملك في قوله تعالى : ( وإذ قلنا للملائكة ) ، فقيل : هما جبريل وميكال ، كما ذكرناه في هذا القول الأخير . وقيل : ملكان غيرهما وهما : هاروت وماروت . وقيل : ملكان غيرهما ، وسيأتي إعراب هاروت وماروت على تقدير هذه الأقوال ، إن شاء الله . وقرأ ابن عباس والحسن وأبو الأسود الدؤلي والضحاك وابن أبزى : الملكين ، بكسر اللام ، فقال : هما رجلان ساحران كانا ابن عباس ببابل ؛ لأن الملائكة لا تعلم الناس السحر . وقال الحسن : هما علجان ببابل العراق . وقال أبو الأسود : هما هاروت وماروت ، وهذا موافق لقول الحسن . وقال ابن أبزى : هما داود وسليمان ، على نبينا وعليهما الصلاة والسلام . وقيل : هما شيطانان . فعلى قول ابن أبزى تكون ما نافية ، وعلى سائر الأقوال ، في هذه القراءة ، تكون ما موصولة . ومعنى الإنزال : القذف في قلوبهما .
وقد ذكر المفسرون ، في قراءة من قرأ : الملكين بفتح اللام ، قصصا كثيرا ، تتضمن : أن الملائكة تعجبت من بني آدم في مخالفتهم ما أمر الله به ، وأن الله تعالى بكتهم ، بأن قال لهم اختاروا ملكين للهبوط إلى الأرض ، فاختاروا هاروت وماروت ، وركب فيهما الشهوة ، فحكما بين الناس ، وافتتنا بامرأة ، تسمى بالعربية : الزهرة ، وبالفارسية : ميذخت ، فطلباها وامتنعت إلا أن يعبدا صنما ، ويشربا الخمر ويقتلا . فخافا على أمرهما ، فعلماها ما تصعد به إلى السماء وما تنزل به ، فصعدت ونسيت ما تنزل به ، فمسخت . وأنهما تشفعا بإدريس إلى الله تعالى ، فخيرهما في عذاب الدنيا والآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فهما ببابل يعذبان . وذكروا في كيفية عذابهما اختلافا . وهذا كله لا يصح منه شيء . والملائكة معصومون ، ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) ، ( لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ) ، ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) . ولا يصح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يلعن الزهرة ، ولا . وقيل : سبب إنزال الملكين : أن السحرة كثروا في ذلك الزمان ، وادعوا النبوة ، وتحدوا الناس بالسحر . فجاءا ليعلما الناس السحر ، فيتمكنوا من معارضة السحر ، فيتبين كذبهم في دعواهم النبوة ، أو لأن المعجزة والسحر ماهيتان متباينتان ، ويعرض بينهما الالتباس . فجاءا لإيضاح الماهيتين ، أو لأن السحر الذي يوقع التفرقة بين أعداء الله وأوليائه كان مباحا ، أو مندوبا ، فبعثا لذلك ، ثم استعمله القوم في التفرقة بين أولياء الله . أو لأن الجن كان عندهم من أنواع السحر ما لم تقدر البشر على مثله ، فأنزلا بذلك لأجل المعارضة . وقيل : أنزلا على ابن عمر إدريس ؛ لأن الملائكة لا يكونون رسلا لكافة الناس ، ولا بد من رسول من البشر . ( ببابل ) : قال : هي في سواد ابن مسعود الكوفة . وقال قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين . وقيل : هي جبل دماوند . وقيل : هي بالمغرب . وقيل : في أرض غير معلومة ، فيها هاروت وماروت ، وسميت ببابل ، قال الخليل : لتبلبل الألسنة حين أراد الله أن يخالف بينها ، أتت ريح فحشرت الناس إلى بابل ، فلم يدر أحد ما يقول الآخر ، ثم فرقتهم الريح في البلاد . وقيل : لتبلبل الألسنة بها عند سقوط قصر نمروذ .
( هاروت وماروت ) : قرأ الجمهور : بفتح التاء ، وهما بدل من الملكين ، وتكون الفتحة علامة للجر لأنهما لا ينصرفان ، وذلك إذا قلنا إنهما اسمان لهما . وقيل : بدل من الناس ، فتكون الفتحة علامة للنصب ، ولا يكون هاروت وماروت [ ص: 330 ] اسمين للملكين . وقيل : هما قبيلتان من الشياطين ، فعلى هذا يكونان بدلا من الشياطين ، وتكون الفتحة علامة للنصب ، على قراءة من نصب الشياطين . وأما من رفع الشياطين ، فانتصابهما على الذم ، كأنه قال : أذم هاروت وماروت ، أي هاتين القبيلتين ، كما قال الشاعر :
أقارع عوفا لا أحاول غيرها وجوه قرود تبتغي من تخادع
وهذا على قراءة الملكين ، بفتح اللام . وأما من قرأ بكسرها ، فيكونان بدلا من الملكين ، إلا إذا فسرا بداود وسليمان عليهما السلام ، فلا يكون هاروت وماروت بدلا منهما ، ولكن يتعلقان بالشياطين على الوجهين اللذين ذكرنا في رفع الشياطين ونصبه . وقرأ الحسن : والزهري هاروت وماروت بالرفع ، فيجوز أن يكونا خبر مبتدأ محذوف ، أي هما هاروت وماروت ، إن كانا ملكين . وجاز أن يكونا بدلا من الشياطين الأول أو الثاني ، على قراءة من رفعه ، إن كانا شيطانين . وتقدم لنا القول في هاروت وماروت ، وأنهما أعجميان . وزعم بعضهم أنهما مشتقان من الهرت والمرت ، وهو الكسر ، وقوله خطأ ، بدليل منعهم الصرف لهما ، ولو كانا كما زعم ، لانصرفا ، كما انصرف جاموس إذا سميت به . واختصت بابل بالإنزال لأنها كانت أكثر البلاد سحرا .
( وما يعلمان من أحد ) : قرأ الجمهور : بالتشديد ، من علم على بابها من التعليم . وقالت طائفة : هو هنا بمعنى يعلمان ، التضعيف والهمزة بمعنى واحد ، فهو من باب الإعلام ، ويؤيده قراءة . وما يعلمان : من أعلم قال : لأن الملكين إنما نزلا يعلمان السحر وينهيان عنه . والضمير في يعلمان عائد على الملكين ، أي وما يعلم الملكان . وكذلك قراءة طلحة بن مصرف أبي ، أي بإظهار الفاعل لا إضماره . وقيل : عائد على هاروت وماروت ، ففي القول الأول يكون عائدا على المبدل منه ، وفي الثاني على البدل ، ومن زائدة لتأكيد استغراق الجنس ؛ لأن أحدا من الألفاظ المستعملة للاستغراق في النفي العام ، فزيدت هنا لتأكيد ذلك ، بخلاف قولك : ما قام من رجل ، فإنها زيدت لاستغراق الجنس ، وشرط زيادتها هنا موجود عند جمهور البصريين ، لأنهم شرطوا أن يكون بعدها نكرة ، وأن يكون قبلها غير واجب . وقد أمعنا الكلام على زيادة من في كتاب منهج السالك من تأليفنا ، وأجاز أبو البقاء أن يكون أحد هنا بمعنى واحد ، والأول أظهر .
( حتى يقولا ) : حتى هنا : حرف غاية ، والمعنى انتفاء تعليمهما ، أو إعلامهما على اختلاف القولين في يعلمان إلى أن يقولا : ( إنما نحن فتنة ) . وقال أبو البقاء : حتى هنا بمعنى إلا أن ، وهذا معنى لحتى لا أعلم أحدا من المتقدمين ذكره . وقد ذكره ابن مالك في التسهيل وأنشد عليه في غيره :
ليس العطاء من الفضول سماحة حتى تجود وما لديك قليل
قال : يريد إلا أن تجود ، وما في ( إنما ) كافة لإن عن العمل ، فيصير من حروف الابتداء . وقد أجاز بعض النحويين عمل إن مع وجود ما ، نحو : إنما زيد قائم .
( نحن فتنة ) : أي ابتلاء واختبار .
( فلا تكفر ) : قال علي رضي الله عنه : كانا يعلمان تعليم إنذار لا تعليم دعاء إليه ، كأنهما يقولان : لا تفعل كذا ، كما لو سأل سائل عن صفة الزنا ، أو القتل ، فأخبر بصفته ليجتنبه . فكان المعنى في يعلمان : يعلمان . وقال : فلا تكفر : فلا تتعلم معتقدا أنه حق فتكفر . وحكى الزمخشري المهدوي : أن قولهما ( إنما نحن فتنة فلا تكفر ) ، استهزاء ، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله . وقال في المنتخب قوله : ( إنما نحن فتنة ) توكيد لقبول الشرع والتمسك به ، فكانت طائفة تمتثل وأخرى تخالف . وقيل : فلا تكفر ، أي لا تستعمله فيما نهيت عنه ، ولكن إذا وقفت عليه فتحرز من أن ينفذ لساحر عليك تمويه . وقيل : فلا تفعله لتعمل به . وهذا على قول من قال : تعلمه جائز والعمل به كفر . وقيل : فلا تكفر بتعليم السحر ، وهذا على قول [ ص: 331 ] من قال : إن تعلمه كفر . وقيل : فلا تكفر بنا ، وهذا على قول : إن الملكين نزلا من السماء بالسحر ، وإن من تعلمه في ذلك الوقت كان كافرا ، ومن تركه كان مؤمنا ، كما جاء في نهر طالوت ، وقد تقدم ما حكاه المهدوي أن قولهما : فلا تكفر ، على سبيل الاستهزاء ، لا على سبيل النصيحة . وقوله : حتى يقولا مطلقا في القول ، وأقل ما يتحقق بالمرة الواحدة ، فقيل مرة ، وقيل سبع مرات ، وقيل تسع مرات ، وقيل ثلاث . ويحتاج ذلك إلى صحة نقل ، وإن لم يوجد ، فيكون محتملا ، والمتحقق المرة الواحدة . واختلف في كيفية تلقي ذلك العلم منهما ، فقال مجاهد : هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ، ويختلف إليهما شيطانان في كل سنة اختلافة واحدة ، فيتعلمان منهما ما يفرقان به بين المرء وزوجه . والظاهر أن هاروت وماروت هما اللذان يباشران التعليم لقوله : ( وما يعلمان ) . وقد ذكر المفسرون قصصا فيما يعرض من المحاورة بين الملكين وبين من جاء ليتعلم منهما ، وفي كل من ذلك القصص أنهما يأمرانه بأن يبول في تنور . فاختلفوا في الإيمان الذي يخرج منه ، أيرى فارسا مقنعا بحديد يخرج منه حتى يغيب في السماء ؟ أو نورا خرج من رماد يسطع حتى يدخل السماء ؟ أو طائرا خرج من بين ثيابه وطار نحو السماء ؟ وفسروا ذلك الخارج بأنه الإيمان . وهذا كله شيء لا يصح ألبتة ، فلذلك لخصنا منه شيئا ، وإن كان لا يصح ، حتى لا نخلي كتابنا مما ذكروه .
( فيتعلمون ) : قاله الفراء ، واختاره ، وهو معطوف على شيء دل عليه أول الكلام ، كأنه قال : فيأبون فيتعلمون . وقال الزجاج الفراء أيضا : هو عطف على ( يعلمون الناس السحر ) ، ( فيتعلمون منهما ) . وأنكره بسبب لفظ الجمع في يعلمون ، وقد قال : " منهما " . وأجازه الزجاج أبو علي وغيره ، إذ لا يمتنع عطف فيتعلمون على يعلمون ، وإن كان التعليم من الملكين خاصة ، والضمير في منهما راجع إليهما ؛ لأن قوله : فيتعلمون منهما ، إنما جاء بعد ذكر الملكين . وقال : هو معطوف على كفروا ، قال : وارتفعت فيتعلمون ؛ لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا : لا تكفر ، فيتعلموا ليجعلا كفره سببا لتعلم غيره ، ولكنه على كفروا فيتعلمون . يريد سيبويه : أن فيتعلمون ليس بجواب لقوله : فلا تكفر ، فينصب كما نصب ( سيبويه ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب ) ؛ لأن كفر من نهي أن يكفر في الآية ليس سببا لتعلم من يتعلم . وكفروا : في موضع فعل مرفوع ، فعطف عليه مرفوع ، ولا وجه لاعتراض من اعترض في العطف على كفروا ، أو على يعلمون ، بأن فيه إضمار الملكين . قيل : ذكرهما من أجل أن التقدير : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ، فيتعلمون منهما ؛ لأن قوله : فيتعلمون منهما إنما جاء بعد ذكر الملكين ، كما تقدم . وقد نقل عن أن قوله : فيتعلمون ، هو على إضمار هم ، أي فهم يتعلمون ، فتكون جملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها عطف الجمل ، والضمير على هذه الأقوال في فيتعلمون عائد على الناس ، ويجوز أن يكون فيتعلمون معطوفا على يعلمان ، والضمير الذي في فيتعلمون لأحد ، وجمع حملا على المعنى كما قال تعالى ( سيبويه فما منكم من أحد عنه حاجزين ) وهذا العطف وإن كان على منفي ، فذلك المنفي هو موجب في المعنى ؛ لأن معناه أنهما يعلمان كل واحد ، إذا قالا له : إنما نحن فتنة فلا تكفر . وذكر هذا الوجه . وقال الزجاج أيضا : الأجود أن يكون عطفا على يعلمان فيتعلمون ، واستغني عن ذكر يعلمان ، بما في الكلام من الدليل عليه . وقال الزجاج أبو علي : لا وجه لقول استغني عن ذكر يعلمان ؛ لأنه موجود في النص . انتهى كلام الزجاج أبي علي ، وهو كلام فيه مغالطة ؛ لأن لم يرد أن فيتعلمون معطوف على يعلمان الداخل عليها ما النافية في قوله : ولا ما يعلمان ، فيكون يعلمان موجودا في النص ، وإنما يريد أن يعلمان مضمرة مثبتة لا منفية . وهذا الذي قدره الزجاج ليس موجودا في النص . وحمل الزجاج أبا علي على هذه المغالطة حب رده [ ص: 332 ] على وتخطئته ؛ لأنه كان مولعا بذلك . وللشنآن الجاري بينهما سبب ذكره الناس . انتهى ما وقفنا عليه للناس في هذا العطف ، وأكثره كلام الزجاج المهدوي ؛ لأنه هو الذي أشبع الكلام في ذلك . وتلخص في هذا العطف أنه عطف على محذوف تقديره : فيأبون فيتعلمون ، أو يعلمان فيتعلمون ، أي على مثبت ، أو يتعلمون خبر مبتدأ محذوف ، أي فهم يتعلمون ، عطف جملة اسمية على فعلية ، أو معطوفا على يعلمون الناس ، أو معطوفا على كفروا ، أو على يعلمان المنفية لكونها موجبة في المعنى . فتلك أقوال ستة ، أقربها إلى اللفظ هذا القول الأخير .
( منهما ) : الضمير في الظاهر عائد على الملكين ، أي فيتعلمون من الملكين ، سواء قرئ بفتح اللام ، أو كسرها . وقيل : يعود على السحر ، وعلى الذي أنزل على الملكين ، وقيل : عائد على الفتنة والكفر ، الذي هو مصدر مفهوم من قوله : ( فلا تكفر ) ، وهذا قول أبي مسلم ، والتقدير عنده : فيتعلمون من الفتنة والكفر مقدار ما يفرقون به بين المرء وزوجه .
( ما يفرقون به ) : ما موصولة ، وجوز أن تكون نكرة موصوفة ، ولا يجوز أن تكون مصدرية ، لأجل عود الضمير عليها . والمصدرية لا يعود عليها ضمير ، لأنها حرف في قول الجمهور ، والذي يفرق به هو السحر . وعنى بالتفريق تفريق الألفة والمحبة ، بحيث تقع الشحناء والبغضاء فيفترقان ، أو تفريق الدين ، بحيث إذا تعلم فقد كفر وصار مرتدا ، فيكون ذلك مفرقا بينهما .
( بين المرء ) : قراءة الجمهور بفتح الميم وسكون الراء والهمز . وقرأ الحسن والزهري وقتادة : المر بغير همز مخففا . وقرأ ابن أبي إسحاق : المرء بضم الميم والهمزة . وقرأ الأشهب العقيلي : المرء بكسر الميم والهمز ، ورويت عن الحسن . وقرأ أيضا : المر بفتح الميم وإسقاط الهمز وتشديد الراء فأما فتح الميم وكسرها وضمها فلغات ، وأما المر بكسر الراء فوجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الراء ، وحذف الهمزة ، وأما تشديدها بعد الحذف ، فوجهه أنه نوى الوقف فشدد ، كما روي عن الزهري عاصم : مستطر بتشديد الراء في الوقف ، ثم أجري الوصل مجرى الوقف ، فأقرها على تشديدها فيه .
( وزوجه ) : ظاهره أنه يريد به امرأة الرجل . وقيل الزوج هنا : الأقارب والإخوان ، وهم الصنف الملائم للإنسان ، ومنه : ( من كل زوج بهيج ) ، ( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ) .
( وما هم بضارين به ) : الضمير الذي هو هم : عائد على السحرة الذين عاد عليهم ضمير فيتعلمون . وقيل : على اليهود الذين عاد عليهم ضمير واتبعوا . وقيل : على الشياطين . وبضارين : في موضع نصب على أن ما حجازية ، أو في موضع رفع على أن ما تميمية . والضمير في به عائد على ما في قوله : ( ما يفرقون ) . وقرأ الجمهور : بإثبات النون في بضارين . وقرأ : بحذفها ، وخرج ذلك على وجهين : أحدهما : أنها حذفت تخفيفا ، وإن كان اسم الفاعل في صلة الألف واللام . والثاني : أن حذفها لأجل الإضافة إلى أحد ، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور الذي هو به ، كما قال : الأعمش
هما أخوا في الحرب من لا أخا له
وكما قال :
كما خط الكتاب بكف يوما يهودي
وهذا اختيار ، ثم استشكل ذلك ؛ لأن أحدا مجرور بمن ، فكيف يمكن أن يعتقد فيه أنه مجرور بالإضافة ؟ فقال : ( فإن قلت ) : كيف يضاف إلى أحد ، وهو مجرور بمن ؟ ( قلت ) : جعل الجار جزءا من المجرور . انتهى . وهذا التخريج ليس بجيد ؛ لأن الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف والجار والمجرور من ضرائر الشعر ، وأقبح من ذلك أن لا يكون ثم مضاف إليه ؛ لأنه مشغول بعامل جر ، فهو المؤثر فيه لا الإضافة . وأما جعل حرف الجر جزءا من المجرور ، فهذا ليس بشيء ؛ لأنه مؤثر فيه . وجزء الشيء لا يؤثر في الشيء ، والأجود التخريج الأول ؛ لأن له نظيرا في نظم العرب ونثرها . فمن النثر قول العرب ، قطاقطا بيضك ثنتا وبيضي مائتا ، يريدون : ثنتان ومائتان . الزمخشري
( من أحد ) ، من زائدة ، و " أحد " : مفعول بضارين . ومن تزاد في المفعول ، إلا أن المعهود زيادتها في المفعول [ ص: 333 ] الذي يكون معمولا للفاعل الذي يباشره حرف النفي نحو : ما ضربت من رجل ، وما ضرب زيد من رجل . وهنا حملت الجملة من غير الفعل والفاعل على الجملة من الفعل والفاعل ؛ لأن المعنى : وما يضرون من أحد .
( إلا بإذن الله ) : مستثنى مفرغ من الأحوال ، فيحتمل أن يكون حالا من الضمير الفاعل في قوله : ( بضارين ) ، ويحتمل أن يكون حالا من المفعول الذي هو : ( من أحد ) ، ويحتمل أن يكون حالا من به ، أي السحر المفرق به ، ويحتمل أن يكون حالا من الضرر المصدر المعرف المحذوف . والإذن هنا فسر الوجوه التي ذكرناها عند الكلام على المفردات . فقال الحسن : الإذن هنا : هو التخلية بين المسحور وضرر السحر . وقال الأصم : العلم . وقال غيره : الخلق ، ويضاف إلى إذنه كقوله : ( كن فيكون ) وقيل : الأمر ، قيل : والإذن حقيقة فيه ، واستبعد ذلك ؛ لأن الله لا يأمر بالسحر ، ولأنه ذمهم على ذلك . وأول معنى الأمر فيه بأن يفسر التفريق بالصيرورة كافرا ، فإن هذا حكم شرعي ، وذلك لا يكون إلا بأمر الله . وفي هذه الجملة دليل على أن ما يتعلمون له تأثير وضرر ، لكن ذلك لا يضر إلا بإذن الله ؛ لأنه ربما أحدث الله عنده شيئا ، وربما لم يحدث .
( ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ) : لما ذكر أنه يحصل به الضرر لمن يفرق بينهما ، ذكر أيضا أن ضرره لا يقتصر على من يفعل به ذلك ، بل هو أيضا يضر من تعلمه . ولما كان إثبات الضرر بشيء لا ينفي النفع ؛ لأنه قد يوجد الشيء فيحصل به الضرر ويحصل به النفع ، نفى النفع عنه بالكلية ، وأتى بلفظ لا ، لأنها ينفى بها الحال والمستقبل . والظاهر أن ( ولا ينفعهم ) معطوف على ( يضرهم ) ، وكلا الفعلين صلة لما ، فلا يكون لها موضع من الإعراب . وجوز بعضهم أن يكون لا ينفعهم على إضمار هو ، أي وهو لا ينفعهم ، فيكون في موضع رفع ، وتكون الواو للحال ، فتكون جملة حالية ، وهذا ضعيف . وقد قيل : الضرر وعدم النفع مختص بالآخرة . وقيل : هو في الدنيا والآخرة ، فإن تعلمه ، إن كان غير مباح ، فهو يجر إلى العمل به ، وإلى التنكيل به ، إذا عثر عليه ، وإلى أن ما يأخذه عليه حرام ، هذا في الدنيا . وأما في الآخرة فلما يترتب عليه من العقاب .
( ولقد علموا ) : الضمير عائد قيل : على اليهود الذين كانوا في عهد سليمان - عليه السلام - وكانوا حاضرين استخراج الشياطين السحر ودفنه ، أو أخذ سليمان السحر ودفنه تحت كرسيه ، ولما أخرجوه بعد موته قالوا : والله ما هذا من عمل سليمان ولا من ذخائره . وقيل : عائد على من بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليهود . وقيل : عائد على اليهود قاطبة ، أي علموا ذلك في التوراة . وقيل : عائد على علماء اليهود . وقيل : عائد على الشياطين . وقيل : على الملكين ، لأنهما كانا يقولان لمن يتعلم السحر : فلا تكفر ، فقد علموا أنه لا خلاق له في الآخرة . وأتي بضمير الجمع على قول من يرى ذلك . وعلم : هنا يحتمل أن تكون المتعدية لمفعولين ، [ ص: 334 ] وعلقت عن الجملة ، ويحتمل أن تكون المتعدية لمفعول واحد ، وعلقت أيضا كما علقت عرفت . والفرق بين هذين التقديرين يظهر في العطف على موضعها . واللام في : ( لمن اشتراه ) هي لام الابتداء ، وهي المانعة من عمل علم ، وهي أحد الأسباب الموجبة للتعليق ، وأجازوا حذفها ، وهي باقية على منع العمل ، وخرجوا على ذلك :
إني وجدت ملاك الشيمة الأدبا
يريد لملاك الشيمة . ومن هنا موصولة ، وهي مرفوعة بالابتداء . والجملة من قوله : ( ما له في الآخرة من خلاق ) في موضع الخبر . واللام في لقد للقسم . هذا مذهب وأكثر النحويين . وجملة ( سيبويه ولقد علموا ) مقسم عليها ، التقدير : والله لقد علموا . والجملة الثانية عنده غير مقسم عليها . وأجاز الفراء أن تكون الجملتان مقسما عليهما ، وتكون من للشرط ، وتبعه في ذلك الحوفي وأبو البقاء . قال أبو البقاء : اللام في ( لمن اشتراه ) هي التي يوطأ بها القسم مثل : ( لئن لم تنته ) ، ومن في موضع رفع بالابتداء ، وهي شرط وجواب القسم ما له في الآخرة من خلاق . انتهى كلامه . فاشتراه في القول الأول صلة ، وفي هذا القول خبر عن من ، ويكون إذ ذاك جواب الشرط محذوفا يدل عليه جواب القسم ؛ لأنه اجتمع قسم وشرط ، ولم يتقدمهما ذو خبر ، فكان الجواب للسابق ، وهو القسم ، ولذلك كان فعل الشرط ماضيا في اللفظ . هذا هو تقرير هذا القول وتوضيحه . وفي كلا القولين يكون : لمن اشتراه ، في موضع نصب : بيعلموا . وقد نقل عن رد قول من قال من شرط ، وقال هذا ليس موضع شرط ، ولم ينقل عنه توجيه كونه ليس موضع شرط . وأرى المانع من ذلك أن الفعل الذي يلي من هو ماض لفظا ومعنى ؛ لأن الاشتراء قد وقع ، وجعله شرطا لا يصح ؛ لأن فعل الشرط إذا كان ماضيا لفظا ، فلا بد أن يكون مستقبلا في المعنى . فلما كان كذلك ، كان ليس موضع شرط . والضمير المنصوب في اشتراه عائد على السحر ، أو الكفر ، أو كتابهم الذي باعوه بالسحر ، أو القرآن ؛ لأنه تعوضوا عنه بكتب السحر ، أقوال أربعة . والخلاق : النصيب ، قاله الزجاج مجاهد ، أو الدين ، قاله الحسن ; أو القوام ، قاله ، أو الخلاص ، أو القدر ، قاله ابن عباس قتادة ; أقوال خمسة .
( ولبئس ما شروا به أنفسهم ) : تقدم القول في بئس ، وفي ما الواقعة بعدها ، ومعناه : ذم ما باعوا به أنفسهم . والضمير في به عائد على السحر ، أو الكفر . والمخصوص بالذم محذوف تقديره على أحسن الوجوه التي تقدمت في بئسما السحر ، أو الكفر . والضمير في : شروا ، ويعلمون ، باتفاق لليهود . فمتى فسر الضمير في : ولقد علموا بأنه عائد على الشياطين ، أواليهود الذين كانوا بحضرة سليمان ، وفي زمانه ، أو الملكين بفتح اللام ، أو بكسرها ، فلا إشكال لاختلاف المسند إليه العلم . وإن اتحد المسند إليه أول العلم الثاني بالعقل ؛ لأن العلم من ثمرته ، فلما انتفى الأصل ، نفي ثمرته . أو بالعمل ؛ لأنه من ثمرة العلم ، فلما انتفت الثمرة ، جعل ما ينشأ عنه منفيا ، أو أول متعلق العلم ، وهو المحذوف ، أي علموا ضرره في الآخرة ، ولم يعلموا نفعه في الدنيا . أو علموا نفي الثواب ، ولم يعلموا استحقاق العذاب . وجواب لو محذوف تقديره :
( لو كانوا يعلمون ) . ذم ذلك لما باعوا أنفسهم .