وفي هذه السنة - أعنى سنة أربع وستين - جرت حروب كثيرة وفتن منتشرة ببلاد المشرق
واستحوذ على بلاد خراسان رجل يقال له عبد الله بن خازم . وقهر عمالها وأخرجهم منها ، وذلك بعد موت يزيد وابنه معاوية ، قبل أن يستقر ابن الزبير على تلك النواحي ، وجرت بين ملك عبد الله بن خازم هذا وبين عمرو بن مرثد حروب يطول ذكرها وتفصيلها ، اكتفينا بذكرها إجمالا ; إذ لا يتعلق بتفصيلها كبير فائدة ، وهي حروب فتنة وقتال بغاة بعضهم في بعض ، وبالله المستعان .
وقال الواقدي : وفي هذه السنة - بعد موت معاوية بن يزيد - بايع أهل خراسان سلم بن زياد بن أبيه ، وأحبوه حتى إنهم سموا باسمه في تلك السنة أكثر من ألف غلام مولود ، ثم نكثوا واختلفوا ، فخرج عنهم سلم ، وترك عليهم . المهلب بن أبي صفرة
[ ص: 684 ] وفيها اجتمع ملأ الشيعة على سليمان بن صرد بالكوفة ، وتواعدوا النخيلة ; ليأخذوا بثأر الحسين بن علي ، رضي الله عنه ، وما زالوا في ذلك مجدين ، وعليه عازمين ، من بعد مقتل الحسين بكربلاء في العاشر من المحرم سنة إحدى وستين ، وقد ندموا على ما كان منهم من بعثهم إليه ، فلما حصل ببلادهم خذلوه وتخلوا عنه ولم ينصروه .
فجادت بوصل حين لا ينفع الوصل
فاجتمعوا في دار وهو صحابي جليل ، وكان رءوس القائمين في ذلك خمسة ; سليمان بن صرد الصحابي ، سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة الفزاري أحد كبار أصحاب علي ، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي ، وعبد الله بن وال التيمي ، ورفاعة بن شداد البجلي ، وكلهم من أصحاب علي ، رضي الله عنه ، فاجتمعوا كلهم بعد خطب ومواعظ على تأمير عليهم ، فتعاهدوا وتعاقدوا ، وتواعدوا النخيلة ; أن يجتمع من يستجيب لهم إلى ذلك الموضع بها في سنة خمس وستين ، ثم جمعوا من أموالهم وأسلحتهم شيئا كثيرا وأعدوه لذلك . سليمان بن صرد[ ص: 685 ] وكتب إلى سليمان بن صرد سعد بن حذيفة بن اليمان ، وهو بالمدائن يدعوه إلى ذلك ، فاستجاب له ، ودعا إليه سعد من أطاعه من أهل المدائن فبادروا إليه بالاستجابة والقبول ، وتمالئوا عليه وتواعدوا النخيلة في التاريخ المذكور . وكتب سعد إلى سليمان بذلك ، ففرح أهل الكوفة من موافقة أهل المدائن لهم على ذلك ، وتنشطوا لأمرهم الذي تمالئوا عليه ، فلما مات يزيد بن معاوية وابنه معاوية بعده بقليل ، طمعوا في الأمر ، واعتقدوا أن أهل الشام قد ضعفوا ، ولم يبق من يقيم لهم أمرا ، فغدوا إلى سليمان ، واستشاروه في الظهور وأن يخرجوا إلى النخيلة قبل الأجل ، فمنعهم من ذلك حتى يأتي الأجل الذي واعدوا إخوانهم فيه . ثم هم في الباطن يعدون السلاح والقوة ، ولا يشعر بهم جمهور الناس ، وحينئذ عمد جمهور أهل الكوفة إلى عمرو بن حريث نائب عبيد الله بن زياد على الكوفة ، فأخرجوه من القصر ، واصطلحوا على عامر بن مسعود بن أمية بن خلف الملقب دحروجة ، فبايع ، فهو يسد الأمور حتى تأتي نواب لعبد الله بن الزبير ابن الزبير ، فلما كان يوم الجمعة لثمان بقين من رمضان من هذه السنة - أعني سنة أربع وستين - قدم أميران إلى الكوفة من جهة ابن الزبير ; أحدهما على الحرب والثغر ، والآخر عبد الله بن يزيد الخطمي على الخراج ، وقد كان قدم قبلهما إلى [ ص: 686 ] إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي الكوفة بجمعة واحدة للنصف من هذا الشهر المختار بن أبي عبيد - وهو المختار الثقفي الكذاب - فوجد الشيعة قد التفت على ، وعظموه تعظيما زائدا ، وهم معدون للحرب ، فلما استقر المختار عندهم ، دعا في الباطن إلى إمامة سليمان بن صرد ، ولقبه المهدي ، فاتبعه كثير من محمد ابن الحنفية الشيعة ، وفارقوا وصارت سليمان بن صرد الشيعة فرقتين ; الجمهور منهم مع سليمان يريدون الخروج على الناس للأخذ بثأر الحسين ، وفرقة أصحاب المختار يريدون الخروج للدعوة إلى إمامة وذلك عن غير أمر محمد ابن الحنفية ورضاه ، وإنما يتقولون عليه ليروجوا على الناس به ، وليتوصلوا إلى أغراضهم الفاسدة ، وجاءت العين الصافية إلى ابن الحنفية نائب عبد الله بن يزيد الخطمي ابن الزبير بما تمالأ عليه فرقتا الشيعة على اختلافهما ; من الخروج على الناس والدعوة إلى ما يريدون ، وأشار من أشار عليه بأن يبادر إليهم ، ويحتاط عليهم ، ويبعث الشرط والمقاتلة فيقمعهم عما هم مجمعون عليه من إرادة الشر والفتنة ، فقام خطيبا في الناس ، وذكر في خطبته ما بلغه عن هؤلاء القوم ، وما أجمعوا عليه من الأمر ، وأن منهم من يريد الأخذ بثأر الحسين ، ولقد علموا أني لست ممن قتله ، وإني والله لممن أصيب بقتله ، رحمه الله ولعن قاتله ، وإني لا أتعرض لأحد قبل أن يبدأني بالشر ، وإن كان هؤلاء يريدون الأخذ بثأر الحسين ، فليعمدوا إلى عبيد الله بن زياد ، . فإنه هو الذي قتل الحسين وخيار أهله ; فليأخذوا منه بالثأر ; ولا يخرجوا بسيوفهم على أهل بلدهم ، فيكون فيه حتفهم واستئصالهم . فقام الآخر فقال : أيها الناس ، لا يغرنكم من أنفسكم كلام هذا المداهن ، إنا والله قد استيقنا أن قوما يريدون الخروج علينا ، [ ص: 687 ] ولنأخذن الوالد بالولد والولد بالوالد ، والحميم بالحميم ، والعريف بما في عرافته ، حتى يدينوا بالحق ويذلوا للطاعة . فوثب إليه إبراهيم بن محمد بن طلحة الأمير المسيب بن نجبة الفزاري فقطع عليه كلامه ، فقال : يابن الناكثين أتهددنا بسيفك وغشمك ؟ ! أنت والله أذل من ذلك ، إنا لا نلومك على بغضنا وقد قتلنا أباك وجدك ، وإنا لنرجو أن نلحقك بهما قبل أن تخرج من هذا القصر . وساعد المسيب بن نجبة بعض أصحابه ، ورد عن جماعة من العمال ، وجرت فتنة وشر كثير في المسجد ، فنزل إبراهيم بن محمد بن طلحة عن المنبر ، وحاولوا أن يوقعوا بين الأميرين ، فلم يتفق لهم ذلك ، ثم ظهرت عبد الله بن يزيد الخطمي الشيعة أصحاب بالسلاح ، وأظهروا ما كان في أنفسهم من الخروج على الناس ، وركبوا مع سليمان بن صرد فقصدوا نحو سليمان بن صرد الجزيرة ، فكان من أمرهم ما سنذكره .
وأما الكذاب فإنه قد كان بغيضا إلى المختار بن أبي عبيد الثقفي الشيعة من يوم طعن الحسن ، وهو ذاهب إلى الشام بأهل العراق ، فلجأ إلى المدائن ، فأشار المختار على عمه ، وهو نائب المدائن بأن يقبض على الحسن ويبعثه إلى معاوية ، فيتخذ بذلك عنده اليد البيضاء ، فامتنع عمه من ذلك ، فأبغضته الشيعة بسبب ذلك ، فلما كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان ، وقتله ابن زياد ، كان المختار يومئذ بالكوفة ، فبلغ ابن زياد أنه يقول : لأقومن بنصرة مسلم ، ولآخذن بثأره . [ ص: 688 ] فأحضره بين يديه ، وضرب عينه بقضيب كان بيده فشترها ، وأمر بسجنه ، فلما بلغ أخته سجنه بكت وجزعت عليه ، وكانت تحت ، فكتب عبد الله بن عمر بن الخطاب ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يشفع عنده في إخراج المختار من السجن ، فبعث يزيد إلى ابن زياد أن ساعة وقوفك على هذا الكتاب تخرج المختار بن أبي عبيد من السجن ، فلم يمكن ابن زياد غير ذلك ، فأخرجه وقال له : إن وجدتك بالكوفة بعد ثلاثة أيام ضربت عنقك . فخرج المختار إلى الحجاز وهو يقول : والله لأقطعن أنامل عبيد الله بن زياد ولأقتلن بالحسين بن علي عدد من قتل على دم يحيى بن زكريا . فلما استفحل أمر عبد الله بن الزبير بمكة بايعه المختار بن أبي عبيد ، وكان من كبار الأمراء عنده ، ولما حاصره الحصين بن نمير وأهل الشام قاتل المختار دونه أشد القتال ، فلما بلغه موت يزيد بن معاوية واضطراب أهل العراق ، نقم على ابن الزبير في بعض الأمر ، وخرج من الحجاز ، فقصد الكوفة فدخلها في يوم جمعة ، والناس يتهيئون للصلاة ، فجعل لا يمر بملأ من الناس إلا سلم ، وقال : أبشروا بالنصر والظفر بالأعداء . ودخل المسجد فصلى إلى سارية هنالك ، حتى أقيمت الصلاة ، ثم صلى من بعد الصلاة حتى صليت العصر ، ثم انصرف فسلم عليه الناس ، وأقبلوا إليه وعليه وعظموه ، وجعل يدعو إلى إمامه المهدي ، ويظهر الانتصار لأهل البيت ، وأنه بصدد أن يقيم شعارهم ، ويظهر منارهم ، ويستوفي ثأرهم ، ويقول للناس الذين قد اجتمعوا على محمد ابن الحنفية من سليمان بن صرد الشيعة ، وقد خشي أن يبادروا إلى الخروج مع سليمان ، فجعل يخذلهم ويستميلهم إليه ، ويقول لهم : إني [ ص: 689 ] قد جئتكم من قبل ولي الأمر ، ومعدن الفضل ، ووصي الوصي ، والإمام المهدي ، بأمر فيه الشفاء ، وكشف الغطاء ، وقتل الأعداء ، وتمام النعماء ، وأن يرحمنا الله وإياه ، إنما هو عشمة من العشم ، وشن بال ، ليس بذي تجربة للأمور ، ولا له علم بالحروب ، إنما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم ، وإني إنما أعمل على مثل قد مثل لي ، وأمر قد بين لي ، فيه عز وليكم ، وقتل عدوكم ، وشفاء صدوركم ، فاسمعوا مني وأطيعوا أمري ، ثم أبشروا وتباشروا ، فإني لكم بكل ما تأملون وتحبون كفيل . فالتف عليه خلق كثير من سليمان بن صرد الشيعة ، ولكن الجمهور منهم مع ، فلما خرجوا مع سليمان بن صرد سليمان إلى النخيلة قال عمر بن سعد بن أبي وقاص وغيرهما وشبث بن ربعي لعبد الله بن يزيد نائب الكوفة : إن المختار بن أبي عبيد أشد عليكم من . فبعث إليه الشرط فأحاطوا بداره ، فأخذه فذهب به إلى السجن مقيدا . وقيل : بغير قيد . فأقام به مدة ومرض فيه . سليمان بن صرد
قال أبو مخنف : فحدثني يحيى بن أبي عيسى أنه قال : دخلت إليه مع حميد بن مسلم الأزدي نعوده ونتعاهده ، فسمعته يقول : أما ورب البحار ، والنخيل والأشجار ، والمهامه والقفار ، والملائكة الأبرار ، والمصطفين الأخيار ، [ ص: 690 ] لأقتلن كل جبار ، بكل لدن خطار ، ومهند بتار ، وجموع من الأنصار ، ليسوا بميل أغمار ، ولا بعزل أشرار ، حتى إذا أقمت عمود الدين ، وجبرت صدع المسلمين ، وشفيت غليل صدور المؤمنين ، وأدركت ثأر أولاد النبيين ، لم أبك على زوال الدنيا ، ولم أحفل بالموت إذا دنا . قال : وكان كلما أتيناه وهو في السجن يردد علينا هذا القول حتى خرج .