لما سار من كسرى وهو يزدجرد بن شهريار المدائن هاربا إلى حلوان شرع في أثناء الطريق في جمع رجال وأعوان وجنود ، من البلدان التي هناك ، فاجتمع إليه خلق كثير ، وجم غفير من الفرس ، وأمر على الجميع مهران ، وسار كسرى إلى حلوان ، وأقام الجمع الذي جمعه بينه وبين المسلمين في جلولاء ، واحتفروا خندقا عظيما حولها ، وأقاموا بها في العدد والعدد وآلات الحصار ، فكتب سعد إلى عمر يخبره بذلك ، فكتب إليه عمر ، أن يقيم هو بالمدائن ، ويبعث ابن أخيه هاشم بن عتبة أميرا على الجيش الذي يبعثه إلى كسرى ، ويكون على المقدمة القعقاع بن عمرو ، وعلى الميمنة سعر بن مالك ، وعلى الميسرة أخوه عمر بن مالك ، وعلى الساقة عمرو بن مرة الجهني . ففعل سعد ذلك ، وبعث مع ابن أخيه جيشا كثيفا يقارب اثني عشر الفا ، من سادات المسلمين ووجوه المهاجرين والأنصار ، ورءوس العرب . وذلك في صفر من هذه السنة ، بعد فراغهم من أمر المدائن فساروا حتى انتهوا إلى المجوس وهم بجلولاء قد خندقوا عليهم ، فحاصرهم هاشم بن عتبة ، وكانوا يخرجون من بلدهم للقتال في كل [ ص: 21 ] وقت ، فيقاتلون قتالا لم يسمع بمثله . وجعل كسرى يبعث إليهم الأمداد ، وكذلك سعد يبعث المدد إلى ابن أخيه ، مرة بعد أخرى . وحمي القتال ، واشتد النزال ، واضطرمت نار الحرب ، وقام في الناس هاشم فخطبهم غير مرة ، فحرضهم على القتال ، والتوكل على الله . وقد تعاقدت الفرس وتعاهدت ، وحلفوا بالنار أن لا يفروا أبدا حتى يفنوا العرب . فلما كان الموقف الأخير ، وهو يوم الفيصل والفرقان ، تواقفوا من أول النهار ، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله ، حتى فني النشاب من الطرفين ، وتقصفت الرماح من هؤلاء ومن هؤلاء ، وصاروا إلى السيوف والطبرزينات ، وحانت صلاة الظهر فصلى المسلمون إيماء ، وذهبت فرقة المجوس وجاءت مكانها أخرى ، فقام القعقاع بن عمرو في المسلمين فقال : أهالكم ما رأيتم أيها المسلمون ؟ قالوا : نعم إنا كالون وهم مريحون . فقال : بل إنا حاملون عليهم ، ومجدون في طلبهم حتى يحكم الله بيننا ، فاحملوا عليهم حملة رجل واحد حتى نخالطهم . فحمل وحمل الناس ، فأما القعقاع فإنه صمم الحملة في جماعة من الفرسان والأبطال والشجعان ، حتى انتهى إلى باب الخندق ، وأقبل الليل بظلامه ، وجالت بقية الأبطال بمن معهم في الناس ، وجعلوا يأخذون في التحاجز من أجل إقبال الليل ، وفي الأبطال يومئذ طليحة الأسدي ، وعمرو بن معديكرب ، ، وقيس بن مكشوح ولم يعلموا بما صنعه وحجر بن عدي ، القعقاع في ظلمة الليل ، ولم [ ص: 22 ] يشعروا بذلك ، لولا مناديه ينادي : أين أيها المسلمون ! هذا أميركم على باب خندقهم . فلما سمع ذلك المجوس فروا ، وحمل المسلمون نحو القعقاع بن عمرو ، فإذا هو على باب الخندق قد ملكه عليهم ، وهربت الفرس كل مهرب ، وأخذهم المسلمون من كل وجه ، وقعدوا لهم كل مرصد ، فقتل منهم في ذلك الموقف مائة ألف ، حتى جللوا وجه الأرض بالقتلى ، فلذلك سميت جلولاء . وغنموا من الأموال والسلاح والذهب والفضة قريبا مما غنموا من المدائن قبلها
وبعث هاشم بن عتبة القعقاع بن عمرو في إثر من انهزم منهم وراء كسرى ، فساق خلفهم حتى أدرك مهران منهزما ، فقتله القعقاع بن عمرو ، وأفلتهم الفيرزان فاستمر منهزما ، وأسر سبايا كثيرة بعث بها إلى هاشم بن عتبة ، وغنموا دواب كثيرة جدا . ثم بعث هاشم بالغنائم والأموال إلى عمه فنفل سعد بن أبي وقاص ، سعد ذوي النجدة ، ثم أمر بقسم ذلك على الغانمين .
قال الشعبي : كان المال المتحصل من وقعة جلولاء ثلاثين ألف ألف ، وكان خمسه ستة آلاف ألف . وقال غيره : كان الذي أصاب كل فارس يوم جلولاء نظير ما حصل له يوم المدائن . يعني اثني عشر ألفا لكل فارس . وقيل : أصاب كل فارس تسعة آلاف وتسع دواب .
[ ص: 23 ] وكان الذي ولي قسم ذلك بين المسلمين وتحصيله سلمان بن ربيعة ، رضي الله عنه . ثم بعث سعد بالأخماس من المال والرقيق والدواب مع زياد بن أبي سفيان ، وقضاعي بن عمرو ، وأبي مفزر الأسود . فلما قدموا على عمر سأل عمر زياد بن أبي سفيان عن كيفية الوقعة ، فذكرها له ، وكان زياد فصيحا ، فأعجب إيراده لها عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وأحب أن يسمع المسلمون منه ذلك ، فقال له : أتستطيع أن تخطب الناس بما أخبرتني به ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، إنه ليس أحد على وجه الأرض أهيب عندي منك ، فكيف لا أقوى على هذا مع غيرك ؟ فقام في الناس فقص عليهم خبر الوقعة ، وكم قتلوا ، وكم غنموا ، بعبارة عظيمة بليغة ، فقال عمر : إن هذا لهو الخطيب المصقع . يعني الفصيح . فقال زياد : إن جندنا أطلقوا بالفعال لساننا . ثم حلف عمر بن الخطاب أن لا يجن هذا المال الذي جاءوا به سقف حتى يقسمه ، فبات عبد الله بن أرقم يحرسانه في المسجد ، فلما أصبح جاء وعبد الرحمن بن عوف عمر في الناس ، بعد ما صلى الغداة وطلعت الشمس ، فأمر فكشف عنه جلابيبه ، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وذهبه الأصفر وفضته البيضاء بكى عمر ، فقال له عبد الرحمن : ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟ فوالله إن هذا لموطن شكر . فقال عمر : والله ما ذاك يبكيني ، وتالله ما أعطى الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا ، ولا تحاسدوا إلا ألقي بأسهم بينهم . ثم قسمه كما قسم أموال القادسية .
[ ص: 24 ] وروى سيف بن عمر عن شيوخه أنهم قالوا : وكان فتح جلولاء في ذي القعدة من سنة ست عشرة ، وكان بينه وبين فتح المدائن تسعة أشهر . وقد تكلم ابن جرير هاهنا فيما رواه عن سيف ، على ما يتعلق بأرض السواد وخراجها ، وموضع تحرير ذلك كتاب " الأحكام " .
وقد قال هاشم بن عتبة في يوم جلولاء :
يوم جلولاء ويوم رستم ويوم زحف الكوفة المقدم ويوم عرض النهر المحرم
وأيام خلت من شهر صرم شيبن أصدغي فهن هرم
مثل ثغام البلد المحرم
[ ص: 25 ]
ويوم جلولاء الوقيعة أصبحت كتائبنا تردي بأسد عوابس
فضضت جموع الفرس ثم أنمتهم فتبا لأجساد المجوس النجائس
وأفلتهن الفيرزان بجرعة ومهران أردت يوم حز القوانس
أقاموا بدار للمنية موعد وللترب تحثوها خجوج الروامس