قد تقدم الحديث بتمامه في مكة إلى المدينة حين ورد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه الهجرة من أبو بكر ومولاه عامر بن فهيرة ودليلهم عبد الله بن أريقط الديلي ، فسألوها هل عندها لبن أو لحم يشترونه منها ، فلم يجدوا عندها شيئا ، وقالت : لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى . وكانوا ممحلين ، فنظر إلى شاة في كسر خيمتها ، فقال : ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ " فقالت : خلفها الجهد . فقال : " أتأذنين أن أحلبها ؟ " فقالت : إن كان بها حلب فاحلبها . فدعا بالشاة فمسحها وذكر اسم الله . فذكر الحديث في حلبه منها ما كفاهم أجمعين ، ثم حلبها وترك عندها إناءها ملأى ، وكان يربض الرهط ، فلما جاء بعلها استنكر اللبن وقال : من أين لك هذا يا أم معبد ولا حلوبة في البيت ، والشاء عازب ؟! فقالت : لا والله ، إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت . فقال : صفيه لي ، فوالله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلب . فقالت : [ ص: 442 ] رأيت رجلا ظاهر الوضاءة ، حسن الخلق ، مليح الوجه ، لم تعبه ثجلة ، ولم تزر به صعلة ، قسيم وسيم ، في عينيه دعج ، وفي أشفاره وطف ، وفي صوته صحل ، أحور ، أكحل ، أزج ، أقرن ، في عنقه سطع ، وفي لحيته كثافة ، إذا صمت فعليه الوقار ، وإذا تكلم سما ، وعلاه البهاء ، حلو المنطق فصل ، لا نزر ولا هذر ، كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن ، أبهى الناس وأجمله من بعيد ، وأحلاه وأحسنه من قريب ؛ ربعة لا تشنؤه عين من طول ، ولا تقتحمه عين من قصر ، غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا ، وأحسنهم قدا ، له رفقاء يحفون به ، إن قال استمعوا لقوله ، وإن أمر تبادروا إلى أمره ، محفود محشود ، لا عابس ولا مفند . فقال بعلها : هذا والله صاحب قريش الذي تطلب ، ولو صادفته لالتمست أن أصحبه ، ولأجهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلا . قال : وأصبح صوت بمكة عال بين السماء والأرض يسمعونه ، ولا يرون من يقوله وهو يقول :
جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر وارتحلا به
فأفلح من أمسى رفيق محمد فيال قصي ما زوى الله عنكم
به من فعال لا تجارى وسؤدد [ ص: 443 ] سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلبت
له بصريح ضرة الشاة مزبد فغادره رهنا لديها لحالب
يدر لها في مصدر ثم مورد
والمقصود أن الحافظ روى هذا الحديث من طريق البيهقي عبد الملك بن وهب المذحجي قال : ثنا الحر بن الصياح ، عن أبي معبد الخزاعي . فذكر الحديث بطوله كما قدمناه بألفاظه . وقد رواه الحافظ والحافظ يعقوب بن سفيان الفسوي ، أبو نعيم في كتابه " دلائل النبوة " قال عبد الملك : فبلغني أن أبا معبد أسلم بعد ذلك ، وأن أم معبد هاجرت وأسلمت . ثم إن الحافظ أتبع هذا الحديث بذكر غريبه ، وقد ذكرناه في الحواشي فيما سبق ، ونحن نذكر هاهنا نكتا من ذلك ؛ فقولها : ظاهر الوضاءة . أي ظاهر الجمال . أبلج الوجه : أي مشرق الوجه مضيئه . لم تعبه ثجلة : قال البيهقي أبو عبيد : هو كبر البطن . وقال غيره : كبر الرأس . ورد أبو عبيد رواية من روى : لم تعبه نحلة . يعني من النحول ، وهو الضعف . قلت : وهذا هو الذي فسر به [ ص: 444 ] الحديث ، والصحيح قول البيهقي أبي عبيدة ولو قيل : إنه كبر الرأس . لكان قويا ؛ وذلك لقولها بعده : ولم تزر به صعلة . وهو صغر الرأس بلا خلاف ، ومنه يقال لولد النعامة : صعل . لصغر رأسه ، ويقال له : الظليم . وأما فرواه : لم تعبه نحلة . يعني من الضعف كما فسره ، ولم تزر به صقلة : قال : وهو الخاصرة ، يريد أنه ضرب من الرجال ليس بمنتفخ ولا ناحل . قال : ويروى : لم تعبه ثجلة . وهو كبر البطن . ولم تزر به صعلة . وهو صغر الرأس . وأما الوسيم فهو حسن الخلق ، وكذلك القسيم أيضا . والدعج : شدة سواد الحدقة . والوطف : طول أشفار العينين . ورواه البيهقي القتيبي : في أشفاره عطف . وتبعه في ذلك . قال البيهقي ولا أعرف ما هذا . وهو معذور ؛ لأنه وقع في روايته غلط ، فحار في تفسيره ، والصواب ما ذكرناه . والله أعلم . وفي صوته صحل : وهو بحة يسيرة ، وهي أحلى في الصوت من أن يكون حادا . قال ابن قتيبة أبو عبيد : وبالصحل توصف الظباء . قال : ومن روى : في صوته صهل . فقد غلط ؛ فإن ذلك لا يكون إلا في الخيل ، ولا يكون في الإنسان . قلت : وهو الذي أورده قال : ويروى : صحل . والصواب قول البيهقي ؛ أبي عبيد . والله أعلم . وأما قولها : أحور . فمستغرب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قبل يسير في العينين يزينها ولا يشينها كالحول . وقولها : أكحل . قد تقدم له شاهد . وقولها : أزج . قال أبو عبيد : هو المتقوس الحاجبين . قال : وأما قولها : أقرن . فهو التقاء الحاجبين بين العينين . قال : ولا يعرف هذا في صفة النبي صلى الله عليه وسلم إلا في هذا [ ص: 445 ] الحديث . قال : والمعروف في صفته عليه الصلاة والسلام أنه أبلج الحاجبين . في عنقه سطع : قال أبو عبيد : أي طول . وقال غيره : نور . قلت : والجمع ممكن بل متعين . وقولها : إذا صمت فعليه الوقار . أي الهيبة عليه في حال صمته وسكوته . وإذا تكلم سما : أي علا على الناس . وعلاه البهاء : أي في حال كلامه . حلو المنطق فصل : أي فصيح بليغ يفصل الكلام ويبينه . لا نزر ولا هذر : أي لا قليل ولا كثير . كأن منطقه خرزات نظم : يعني الدر من حسنه وبلاغته وفصاحته وبيانه وحلاوة لسانه . أبهى الناس وأجمله من بعيد وأحلاه وأحسنه من قريب : أي هو مليح من بعيد ومن قريب . وذكرت أنه لا طويل ولا قصير ، بل هو أحسن من هذا ومن هذا . وذكرت أن أصحابه يعظمونه ويكرمونه ويخدمونه ويبادرون إلى طاعته ، وما ذاك إلا لجلالته عندهم وعظمته في نفوسهم ومحبتهم له ، وأنه ليس بعابس : أي ليس يعبس . ولا يفند أحدا : أي يهجنه ويستقل عقله ؛ بل جميل المعاشرة ، حسن الصحبة ، صاحبه كريم عليه ، وهو حبيب إليه صلى الله عليه وسلم
قال أبو زرعة في " الدلائل " : ثنا أبو نعيم ، ثنا يوسف - يعني ابن صهيب - عن عبد الله بن بريدة ، أن كان أحسن البشر قدما . وهذا مرسل . رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
[ ص: 446 ] وقال أبو زرعة أيضا : ثنا إسماعيل بن أبان الأزدي الوراق ، ثنا عنبسة بن عبد الرحمن ، عن محمد بن زاذان ، عن أم سعد عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : عائشة أن الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء فلا يرى منه شيء ؟ " هذا الحديث يعد من المنكرات . والله أعلم . قلت : يا رسول الله ، تأتي الخلاء فلا نرى منك شيئا من الأذى ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أو ما علمت يا