الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي فيها من الأعيان :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الشيخ أبو حامد الإسفراييني ، أحمد بن محمد بن أحمد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الشيخ أبو حامد
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ، إمام الشافعية في زمانه ، ومولده في سنة أربع وأربعين وثلاثمائة ، قدم بغداد وهو صغير ، سنة ثلاث - أو أربع - وستين وثلاثمائة ، فدرس الفقه على أبي الحسن بن المرزبان ، ثم على أبي القاسم الداركي ، ولم يزل يترقى به الحال حتى صارت إليه رياسة الشافعية ، وعظم جاهه عند السلطان والعوام ، وكان ثقة إماما فقيها جليلا نبيلا ، شرح المزني في تعليقة حافلة نحو من خمسين مجلدا ، وله تعليقة أخرى في أصول الفقه ، وروى عن أبي بكر الإسماعيلي وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الخطيب البغدادي : ورأيته غير مرة ، وحضرت تدريسه بمسجد عبد الله بن المبارك ، في صدر قطيعة الربيع ، وحدثنا عنه الأزجي والخلال ، وسمعت من يذكر أنه كان يحضر تدريسه سبعمائة متفقه ، وكان الناس يقولون : لو رآه الشافعي لفرح به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو الحسن القدوري : ما رأيت في الشافعيين أفقه من أبي حامد ، [ ص: 565 ] رحمه الله . وقد ذكرت ترجمته مستقصاة في " طبقات الشافعية " ، ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر ابن خلكان في الوفيات أن القدوري قال : هو أفقه وأنظر من الشافعي . قال الشيخ أبو إسحاق : وليس هذا مسلما إلى القدوري ; فإن أبا حامد وأمثاله بالنسبة إلى الشافعي ، كما قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      نزلوا بمكة في قبائل نوفل ونزلت بالبيداء أبعد منزل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن خلكان : وله من المصنفات " التعليقة الكبرى " ، وله كتاب " البستان " وهو صغير ، فيه غرائب . قال : وقد اعتذر إليه بعض الفقهاء في بعض المناظرات ، فأنشأ الشيخ أبو حامد يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      جفاء جرى جهرا لدى الناس وانبسط     وعذر أتى سرا فأكد ما فرط
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن ظن أن يمحو جلي جفائه     خفي اعتذار فهو في أعظم الغلط

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كانت وفاته ليلة السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال من هذه السنة ، ودفن بداره بعدما صلي عليه بالصحراء ، وكان الجمع كثيرا والبكاء غزيرا ، ثم نقل إلى مقبرة باب حرب في سنة عشر وأربعمائة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الجوزي : وبلغ من العمر إحدى وستين سنة وأشهرا ، رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 566 ] أبو أحمد الفرضي ، عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن علي بن مهران ، أبو أحمد بن أبي مسلم الفرضي المقرئ

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سمع المحاملي ويوسف بن يعقوب ، وحضر مجلس أبي بكر بن الأنباري ، وكان إماما ثقة ، ورعا ، وقورا ، كثير الخير ، يقرئ القرآن ، ثم يسمع الحديث ، وكان معظما جليلا ; إذا قدم على الشيخ أبي حامد الإسفراييني ، نهض إليه حافيا ، فتلقاه إلى باب المسجد ، توفي وقد جاوز الثمانين ، رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الشريف الرضي ، محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبو الحسن العلوي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ، لقبه بهاء الدولة بالرضي ذي الحسبين ، ولقب أخاه بالمرتضى ذي المجدين ، وكان نقيب الطالبيين ببغداد بعد أبيه ، وكان فاضلا دينا ، قرأ القرآن بعد ثلاثين سنة من عمره ، وحفظ طرفا جيدا من الفقه وفنون العلم . وكان شاعرا مطبقا ، سخيا جوادا ورعا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال بعضهم : كان الشريف الرضي في كثرة شعره أشعر قريش . فمن شعره المستجاد قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      اشتر العز بما شئ     ت فما العز بغال
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بالقصار الصفر إن شئ     ت أو السمر الطوال
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ليس بالمغبون عقلا     من شرى عزا بمال
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إنما يدخر الما     ل لحاجات الرجال
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والفتى من جعل الأم     وال أثمان المعالي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن شعره ، رحمه الله تعالى :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا طائر البان غريدا على فنن     ما هاج نوحك لي يا طائر البان
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هل أنت مبلغ من هام الفؤاد به     إن الطليق يؤدي حاجة العاني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      جناية ما جناها غير مقلته     يوم الوداع وواشوقي إلى الجاني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لولا تذكر أيامي بذي سلم     وعند رامة أوطاري وأوطاني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لما قدحت بنار الوجد في كبدي     ولا بللت بماء الدمع أجفاني

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد نسب إلى الرضي قصيدة يترامى فيها على الحاكم العبيدي ، ويود أن لو كان ببلده وفي حوزته ، ويا ليت أن ذلك كان ، حتى يرى كيف تكون منزلته عنده ، ولو أن الخليفة العباسي أجاد السياسة ، لسيره إليه ليقضي مراده ويعلم الناس كيف حاله ، لكن حلم العباسيين غزير . يقول في هذه القصيدة :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ألبس الذل في بلاد الأعادي     وبمصر الخليفة العلوي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 568 ] من أبوه أبي ومولاه مولا     ي إذا ضامني البعيد القصي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لف عرقي بعرقه سيد النا     س جميعا محمد وعلي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن خوفي بذلك الربع أمن     وأوامي بذلك الورد ري

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما سمع الخليفة القادر بأمر هذه القصيدة انزعج ، وبعث إلى أبيه الشريف الطاهر أبي أحمد الموسوي يعاتبه ، فأرسل إلى ابنه الرضي ، فأنكر أن يكون قال ذلك بمرة ، والروافض من شأنهم التقية . فقال له أبوه : فإذا لم تكن قلتها فقل أبياتا تذكر فيها أن الحاكم بمصر دعي لا نسب له . فقال : إني أخاف من غائلة ذلك . وأصر على أن لا يقول ما أمره به أبوه ، وترددت الرسل من الخليفة إليهم في ذلك ، وهم ينكرون ، حتى بعث الشيخ أبا حامد الإسفراييني والقاضي أبا بكر إليهما ، فأحلفاه بالله وبالأيمان المؤكدة أنه ما قالها . والله أعلم بحقيقة الحال .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      توفي في خامس المحرم من هذه السنة عن سبع وأربعين سنة ، وحضر جنازته الوزير والقضاة والأعيان ، وصلى عليه الوزير فخر الملك ، ودفن بداره بمسجد الأنبار وولي أخوه الشريف المرتضى ما كان يليه ، وزيد على ذلك مناصب أخر ، وقد رثاه أخوه رحمه الله ، بمرثاة حسنة المطلع .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      باديس بن منصور بن بلكين بن زيري بن مناد الحميري

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبو المعز مناد بن [ ص: 569 ] باديس ، نائب الحاكم على بلاد إفريقية وابن نائبها ، ولقبه الحاكم نصير الدولة ، وكان ذا هيبة وسطوة وحرمة وافرة ، كان إذا هز رمحا كسره . كانت وفاته بغتة ليلة الأربعاء سلخ ذي القعدة من هذه السنة ، ويقال : إن بعض الصالحين دعا عليه تلك الليلة . وقام بالأمر من بعده ولده المعز .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية