قد ذكرنا الوليد بن يزيد وخلاعته ومجانته ، وما ذكر عنه من تهاونه واستخفافه بأمر دينه قبل خلافته ، ولما ولي الخلافة وأفضت إليه لم [ ص: 175 ] يزدد في الذي كان فيه من اللهو واللذة والركوب إلى الصيد وشرب المسكر ومنادمة الفساق ، إلا تماديا وجدا ، فثقل ذلك من أمره على رعيته وجنده ، وكرهوه كراهة شديدة ، وكان من أعظم ما جنى على نفسه حتى أورثه ذلك هلاكه ، إفساده على نفسه بني عميه بعض أمر هشام ، والوليد مع إفساده اليمانية وهم عظم جند خراسان ; وذلك أنه لما قتل وسلمه إلى غريمه خالد بن عبد الله القسري يوسف بن عمر الذي هو نائب العراق إذ ذاك ، فلم يزل يعاقبه حتى هلك ، انقلبوا عليه وتنكروا له ، وساءهم قتله ، كما سنذكره في ترجمته .
ثم روى ابن جرير بسنده ، أن الوليد بن يزيد ضرب ابن عمه سليمان بن هشام مائة سوط ، وحلق رأسه ولحيته ، وغربه إلى عمان ، فحبسه بها ، فلم يزل هناك حتى قتل الوليد وأخذ جارية كانت لآل عمه ، فكلمه فيها الوليد بن عبد الملك عمر بن الوليد فقال : لا أردها . فقال : إذن تكثر الصواهل حول عسكرك . وحبس الأفقم يزيد بن هشام وبايع لولديه الحكم وعثمان وكانا دون البلوغ ، فشق ذلك على الناس أيضا ، ونصحوه فلم ينتصح ، ونهوه فلم يرتدع ولم يقبل .
قال المدائني في روايته : ثقل ذلك على الناس ، ورماه بنو هشام وبنو [ ص: 176 ] الوليد بالكفر وغشيان أمهات أولاد أبيه ، وقالوا : قد اتخذ مائة جامعة ، على كل جامعة اسم رجل من بني أمية ليقتله بها ، ورموه بالزندقة ، وكان أشدهم فيه قولا وكان الناس إلى قوله أميل ; لأنه أظهر النسك والتواضع ، وجعل يقول : ما يسعنا الرضا يزيد بن الوليد بن عبد الملك بالوليد . حتى حمل الناس على الفتك به .
قالوا : وانتدب للقيام عليه جماعة من قضاعة واليمانية وخلق من أعيان الأمراء وآل ، وآل الوليد بن عبد الملك هشام بن عبد الملك ، وكان القائم بأعباء ذلك كله والداعي إليه وهو من سادات يزيد بن الوليد بن عبد الملك بني أمية وكان ينسب إلى الصلاح والدين والورع ، فبايعه الناس على ذلك ، وقد نهاه عن ذلك أخوه العباس بن الوليد فلم يقبل ، فقال : والله لولا أني أخاف عليك الوليد لقيدتك وأرسلتك إليه . واتفق خروج الناس من دمشق من وباء وقع بها ، فكان ممن خرج الوليد بن يزيد أمير المؤمنين في طائفة من أصحابه نحو المائتين ، إلى ناحية مشارف دمشق ، فانتظم ليزيد بن الوليد أمره ، وجعل أخوه العباس ينهاه عن ذلك أشد النهي ، فلا يقبل ، فقال العباس في ذلك :
[ ص: 177 ]
إني أعيذكم بالله من فتن مثل الجبال تسامى ثم تندفع إن البرية قد ملت سياستكم
فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم
إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا لا تبقرن بأيديكم بطونكم
فثم لا حسرة تغني ولا جزع
فجاءتهم أنصارهم حين أصبحوا سكاسكها أهل البيوت الصنادد
وكلب فجاءوهم بخيل وعدة من البيض والأبدان ثم السواعد
فأكرم بها أحياء أنصار سنة هم منعوا حرماتها كل جاحد
وجاءتهم شعبان والأزد شرعا وعبس ولخم بين حام وذائد
وغسان والحيان قيس وتغلب وأحجم عنها كل وان وزاهد
فما أصبحوا إلا وهم أهل ملكها قد استوثقوا من كل عات ومارد
قال ابن جرير : كان شديد البطش ، طويل أصابع الرجلين ، كانت تضرب له سكة الحديد في الأرض ، ويربط فيها خيط إلى رجله ، ثم يثب على الفرس ، فيركبها ، ولا يمس الفرس ، فتنقلع تلك السكة من الأرض مع وثبته .