قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : " ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم " ، ولو شاء الله لسلط هؤلاء الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فيدخلون في جوارهم وذمتهم ، والذين يجيئونكم قد حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم عليكم ، أيها المؤمنون ، فقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين ، ولكن الله تعالى ذكره كفهم عنكم . يقول جل ثناؤه : فأطيعوا الذي أنعم عليكم بكفهم عنكم مع سائر ما أنعم به عليكم ، فيما أمركم به من الكف عنهم إذا وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ، أو جاءوكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم . ثم قال جل ثناؤه : " فإن اعتزلوكم " ، يقول : فإن اعتزلكم هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عن قتالهم من المنافقين ، بدخولهم في أهل عهدكم ، أو مصيرهم إليكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم " فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم " ، يقول : وصالحوكم .
و "السلم " ، هو الاستسلام . وإنما هذا مثل ، كما يقول الرجل للرجل : "أعطيتك قيادي" ، و "ألقيت إليك خطامي" ، إذا استسلم له وانقاد لأمره . فكذلك قوله : "وألقوا إليكم السلم" ، إنما هو : ألقوا إليكم قيادهم واستسلموا لكم ، صلحا منهم لكم وسلما . ومن "السلم" قول الطرماح :
وذاك أن تميما غادرت سلما للأسد كل حصان وعثة اللبد
[ ص: 24 ]يعني بقوله : "سلما" ، استسلاما .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
10073 - حدثني المثنى قال : حدثنا ابن أبي جعفر : عن أبيه ، عن الربيع : " فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم " ، قال : الصلح .
وأما قوله : " فما جعل الله لكم عليهم سبيلا " ، فإنه يقول : إذا استسلم لكم هؤلاء المنافقون الذين وصف صفتهم ، صلحا منهم لكم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ، أي : فلم يجعل الله لكم على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم طريقا إلى قتل أو سباء أو غنيمة ، بإباحة منه ذلك لكم ولا إذن ، فلا تعرضوا لهم في ذلك إلا سبيل خير
ثم نسخ الله جميع حكم هذه الآية والتي بعدها بقوله تعالى ذكره : [ ص: 25 ]
( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) إلى قوله : ( فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ) [ سورة التوبة : 5 ] .
ذكر من قال في ذلك مثل الذي قلنا :
10074 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا عن يحيى بن واضح ، الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن قالا : قال : ( فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ) إلى قوله : ( وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ) وقال في "الممتحنة" : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) ، وقال فيها : ( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم ) إلى ( فأولئك هم الظالمون ) [ سورة الممتحنة : 8 ، 9 ] . فنسخ هؤلاء الآيات الأربع في شأن المشركين فقال : ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ) [ سورة التوبة : 1 ، 2 ] . فجعل لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض ، وأبطل ما كان قبل ذلك . وقال في التي تليها : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ) ، ثم نسخ واستثنى فقال : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ) إلى قوله : ( ثم أبلغه مأمنه ) [ سورة التوبة : 5 ، 6 ] .
10075 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فإن اعتزلوكم " ، قال : نسختها : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) . [ ص: 26 ]
10076 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا همام بن يحيى قال : سمعت قتادة : يقول في قوله : " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق " إلى قوله : " فما جعل الله لكم عليهم سبيلا " ، ثم نسخ ذلك بعد في "براءة" وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل المشركين بقوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ) .
10077 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق " ، الآية ، قال : نسخ هذا كله أجمع ، نسخه الجهاد ، ضرب لهم أجل أربعة أشهر : إما أن يسلموا ، وإما أن يكون الجهاد .