[ ص: 1 ] [ ص: 2 ] [ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم بركة من الله وأمر
قرئ على
nindex.php?page=showalam&ids=16935أبي جعفر محمد بن جرير الطبري في سنة ست وثلاثمائة ، قال : الحمد لله الذي حجت الألباب بدائع حكمه ، وخصمت العقول لطائف حججه وقطعت عذر الملحدين عجائب صنعه ، وهتفت في أسماع العالمين ألسن أدلته ، شاهدة أنه الله الذي لا إله إلا هو ، الذي لا عدل له معادل ولا مثل له مماثل ، ولا شريك له مظاهر ، ولا ولد له ولا والد ، ولم يكن له صاحبة ولا كفوا أحد; وأنه الجبار الذي خضعت لجبروته الجبابرة ، والعزيز الذي ذلت لعزته الملوك الأعزة ، وخشعت لمهابة سطوته ذوو المهابة ، وأذعن له جميع الخلق بالطاعة طوعا وكرها ، كما قال الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=15ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ) [ سورة الرعد : 15 . فكل موجود إلى وحدانيته داع ، وكل محسوس إلى ربوبيته هاد ، بما وسمهم به من آثار الصنعة ، من نقص وزيادة ، وعجز وحاجة ، وتصرف في عاهات عارضة ، ومقارنة أحداث لازمة ، لتكون له الحجة البالغة .
ثم أردف ما شهدت به من ذلك أدلته ، وأكد ما استنارت في القلوب منه بهجته ، برسل ابتعثهم إلى من يشاء من عباده ، دعاة إلى ما اتضحت لديهم صحته ، وثبتت في العقول حجته ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) [ سورة النساء : 165 ]
[ ص: 4 ]
وليذكر أولو النهى والحلم . فأمدهم بعونه ، وأبانهم من سائر خلقه ، بما دل به على صدقهم من الأدلة ، وأيدهم به من الحجج البالغة والآي المعجزة ، لئلا يقول القائل منهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=33ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ) [ سورة المؤمنون : 33 - 34 ] فجعلهم سفراء بينه وبين خلقه ، وأمناءه على وحيه ، واختصهم بفضله ، واصطفاهم برسالته ، ثم جعلهم - فيما خصهم به من مواهبه ، ومن به عليهم من كراماته - مراتب مختلفة ، ومنازل مفترقة ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات ، متفاضلات متباينات . فكرم بعضهم بالتكليم والنجوى ، وأيد بعضهم بروح القدس ، وخصه بإحياء الموتى ، وإبراء أولي العاهة والعمى ، وفضل نبينا
محمدا صلى الله عليه وسلم ، من الدرجات بالعليا ، ومن المراتب بالعظمى . فحباه من أقسام كرامته بالقسم الأفضل وخصه من درجات النبوة بالحظ الأجزل ، ومن الأتباع والأصحاب بالنصيب الأوفر . وابتعثه بالدعوة التامة ، والرسالة العامة ، وحاطه وحيدا ، وعصمه فريدا ، من كل جبار عاند ، وكل شيطان مارد حتى أظهر به الدين ، وأوضح به السبيل ، وأنهج به معالم الحق ، ومحق به منار الشرك . وزهق به الباطل ، واضمحل به الضلال وخدع الشيطان وعبادة الأصنام والأوثان ، مؤيدا بدلالة على الأيام باقية ، وعلى الدهور والأزمان ثابتة ، وعلى مر الشهور والسنين دائمة ، يزداد ضياؤها على كر الدهور إشراقا ، وعلى مر الليالي والأيام
[ ص: 5 ] ائتلاقا ، خصيصى من الله له بها دون سائر رسله - الذين قهرتهم الجبابرة ، واستذلتهم الأمم الفاجرة ، فتعفت بعدهم منهم الآثار ، وأخملت ذكرهم الليالي والأيام - ودون من كان منهم مرسلا إلى أمة دون أمة ، وخاصة دون عامة ، وجماعة دون كافة .
فالحمد لله الذي كرمنا بتصديقه ، وشرفنا باتباعه ، وجعلنا من أهل الإقرار والإيمان به وبما دعا إليه وجاء به ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أزكى صلواته ، وأفضل سلامه ، وأتم تحياته .
ثم أما بعد فإن من جسيم ما خص الله به أمة نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم من الفضيلة ، وشرفهم به على سائر الأمم من المنازل الرفيعة ، وحباهم به من الكرامة السنية ، حفظه ما حفظ عليهم - جل ذكره وتقدست أسماؤه - من وحيه وتنزيله ، الذي جعله على حقيقة نبوة نبيهم صلى الله عليه وسلم دلالة ، وعلى ما خصه به من الكرامة علامة واضحة ، وحجة بالغة ، أبانه به من كل كاذب ومفتر ، وفصل به بينهم وبين كل جاحد وملحد ، وفرق به بينهم وبين كل كافر ومشرك; الذي لو اجتمع جميع من بين أقطارها ، من جنها وإنسها وصغيرها وكبيرها ، على أن يأتوا بسورة من مثله لم يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . فجعله لهم في دجى الظلم نورا ساطعا ، وفي سدف الشبه شهابا لامعا وفي مضلة المسالك دليلا هاديا ، وإلى سبل النجاة والحق حاديا ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=16يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) [ سورة المائدة : 16 . حرسه بعين
[ ص: 6 ] منه لا تنام ، وحاطه بركن منه لا يضام ، لا تهي على الأيام دعائمه ، ولا تبيد على طول الأزمان معالمه ، ولا يجوز عن قصد المحجة تابعه ولا يضل عن سبل الهدى مصاحبه . من اتبعه فاز وهدي ، ومن حاد عنه ضل وغوى ، فهو موئلهم الذي إليه عند الاختلاف يئلون ، ومعقلهم الذي إليه في النوازل يعقلون وحصنهم الذي به من وساوس الشيطان يتحصنون ، وحكمة ربهم التي إليها يحتكمون ، وفصل قضائه بينهم الذي إليه ينتهون ، وعن الرضى به يصدرون ، وحبله الذي بالتمسك به من الهلكة يعتصمون .
اللهم فوفقنا لإصابة صواب القول في محكمه ومتشابهه ، وحلاله وحرامه ، وعامه وخاصه ، ومجمله ومفسره ، وناسخه ومنسوخه ، وظاهره وباطنه ، وتأويل آيه وتفسير مشكله . وألهمنا التمسك به والاعتصام بمحكمه ، والثبات على التسليم لمتشابهه . وأوزعنا الشكر على ما أنعمت به علينا من حفظه والعلم بحدوده . إنك سميع الدعاء قريب الإجابة . وصلى الله على
محمد النبي وآله وسلم تسليما .
اعلموا عباد الله ، رحمكم الله ، أن أحق ما صرفت إلى علمه العناية ، وبلغت في معرفته الغاية ، ما كان لله في العلم به رضى ، وللعالم به إلى سبيل الرشاد هدى ، وأن أجمع ذلك لباغيه كتاب الله الذي لا ريب فيه ، وتنزيله الذي لا مرية فيه ، الفائز بجزيل الذخر وسني الأجر تاليه ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد .
ونحن - في شرح تأويله ، وبيان ما فيه من معانيه - منشئون إن شاء الله ذلك ، كتابا مستوعبا لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه جامعا ، ومن سائر الكتب
[ ص: 7 ] غيره في ذلك كافيا . ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه منه واختلافها فيما اختلفت فيه منه . ومبينو علل كل مذهب من مذاهبهم ، وموضحو الصحيح لدينا من ذلك ، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك ، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه .
والله نسأل عونه وتوفيقه لما يقرب من محابه ، ويبعد من مساخطه . وصلى الله على صفوته من خلقه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا .
وأول ما نبدأ به من القيل في ذلك : الإبانة عن الأسباب التي البداية بها أولى ، وتقديمها قبل ما عداها أحرى . وذلك : البيان عما في آي القرآن من المعاني التي من قبلها يدخل اللبس على من لم يعان رياضة العلوم العربية ، ولم تستحكم معرفته بتصاريف وجوه منطق الألسن السليقية الطبيعية .
[ ص: 1 ] [ ص: 2 ] [ ص: 3 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَرَكَةٌ مِنَ اللَّهِ وَأَمْرٌ
قُرِئَ عَلَى
nindex.php?page=showalam&ids=16935أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ ، قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَجَّتِ الْأَلْبَابَ بَدَائِعُ حِكَمِهِ ، وَخَصَمَتِ الْعُقُولَ لَطَائِفُ حُجَجِهِ وَقَطَعَتْ عُذْرَ الْمُلْحِدِينَ عَجَائِبُ صُنْعِهِ ، وَهَتَفَتْ فِي أَسْمَاعِ الْعَالَمِينَ أَلْسُنُ أَدِلَّتِهِ ، شَاهِدَةً أَنَّهُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، الَّذِي لَا عِدْلَ لَهُ مُعَادِلٌ وَلَا مِثْلَ لَهُ مُمَاثِلٌ ، وَلَا شَرِيكَ لَهُ مُظَاهِرٌ ، وَلَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَلَا كُفُوًا أَحَدٌ; وَأَنَّهُ الْجَبَّارُ الَّذِي خَضَعَتْ لِجَبَرُوتِهِ الْجَبَابِرَةُ ، وَالْعَزِيزُ الَّذِي ذَلَّتْ لِعِزَّتِهِ الْمُلُوكُ الْأَعِزَّةُ ، وَخَشَعَتْ لِمَهَابَةِ سَطْوَتِهِ ذَوُو الْمَهَابَةِ ، وَأَذْعَنَ لَهُ جَمِيعُ الْخَلْقِ بِالطَّاعَةِ طَوْعًا وَكَرْهًا ، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=15وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ) [ سُورَةُ الرَّعْدِ : 15 . فَكُلُّ مَوْجُودٍ إِلَى وَحْدَانِيَّتِهِ دَاعٍ ، وَكُلُّ مَحْسُوسٍ إِلَى رُبُوبِيَّتِهِ هَادٍ ، بِمَا وَسَمَهُمْ بِهِ مِنْ آثَارِ الصَّنْعَةِ ، مِنْ نَقْصٍ وَزِيَادَةٍ ، وَعَجْزٍ وَحَاجَةٍ ، وَتَصَرُّفٍ فِي عَاهَاتٍ عَارِضَةٍ ، وَمُقَارَنَةِ أَحْدَاثٍ لَازِمَةٍ ، لِتَكُونَ لَهُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ .
ثُمَّ أَرْدَفَ مَا شَهِدَتْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ أَدِلَّتُهُ ، وَأَكَّدَ مَا اسْتَنَارَتْ فِي الْقُلُوبِ مِنْهُ بَهْجَتُهُ ، بِرُسُلٍ ابْتَعَثَهُمْ إِلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، دُعَاةً إِلَى مَا اتَّضَحَتْ لَدَيْهِمْ صِحَّتُهُ ، وَثَبَتَتْ فِي الْعُقُولِ حُجَّتُهُ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 165 ]
[ ص: 4 ]
وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو النُّهَى وَالْحِلْمِ . فَأَمَدَّهُمْ بِعَوْنِهِ ، وَأَبَانَهُمْ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ ، بِمَا دَلَّ بِهِ عَلَى صِدْقِهِمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ ، وَأَيَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْحُجَجِ الْبَالِغَةِ وَالْآيِ الْمُعْجِزَةِ ، لِئَلَّا يَقُولَ الْقَائِلُ مِنْهُمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=33مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ) [ سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ : 33 - 34 ] فَجَعَلَهُمْ سُفَرَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ ، وَأُمَنَاءَهُ عَلَى وَحْيِهِ ، وَاخْتَصَّهُمْ بِفَضْلِهِ ، وَاصْطَفَاهُمْ بِرِسَالَتِهِ ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ - فِيمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ مَوَاهِبِهِ ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ كَرَامَاتِهِ - مَرَاتِبَ مُخْتَلِفَةً ، وَمَنَازِلَ مُفْتَرِقَةً ، وَرَفْعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ، مُتَفَاضِلَاتٍ مُتَبَايِنَاتٍ . فَكَرَّمَ بَعْضَهُمْ بِالتَّكْلِيمِ وَالنَّجْوَى ، وَأَيَّدَ بَعْضَهُمْ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، وَخَصَّهُ بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى ، وَإِبْرَاءِ أُولِي الْعَاهَةِ وَالْعَمَى ، وَفَضَّلَ نَبِيَّنَا
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِنَ الدَّرَجَاتِ بِالْعُلْيَا ، وَمِنَ الْمَرَاتِبِ بِالْعُظْمَى . فَحَبَاهُ مِنْ أَقْسَامِ كَرَامَتِهِ بِالْقِسْمِ الْأَفْضَلِ وَخَصَّهُ مِنْ دَرَجَاتِ النُّبُوَّةِ بِالْحَظِّ الْأَجْزَلِ ، وَمِنَ الْأَتْبَاعِ وَالْأَصْحَابِ بِالنَّصِيبِ الْأَوْفَرِ . وَابْتَعَثَهُ بِالدَّعْوَةِ التَّامَّةِ ، وَالرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ ، وَحَاطَهُ وَحِيدًا ، وَعَصَمَهُ فَرِيدًا ، مِنْ كُلِّ جَبَّارٍ عَانِدٍ ، وَكُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ حَتَّى أَظْهَرَ بِهِ الدِّينَ ، وَأَوْضَحَ بِهِ السَّبِيلَ ، وَأَنْهَجَ بِهِ مَعَالِمَ الْحَقِّ ، وَمَحَقَ بِهِ مَنَارَ الشِّرْكِ . وَزَهَقَ بِهِ الْبَاطِلُ ، وَاضْمَحَلَّ بِهِ الضَّلَالُ وَخُدَعُ الشَّيْطَانِ وَعِبَادَةُ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ ، مُؤَيَّدًا بِدَلَالَةٍ عَلَى الْأَيَّامِ بَاقِيَةٍ ، وَعَلَى الدُّهُورِ وَالْأَزْمَانِ ثَابِتَةٍ ، وَعَلَى مَرِّ الشُّهُورِ وَالسِّنِينَ دَائِمَةٍ ، يَزْدَادُ ضِيَاؤُهَا عَلَى كَرِّ الدُّهُورِ إِشْرَاقًا ، وَعَلَى مَرِّ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ
[ ص: 5 ] ائْتِلَاقًا ، خِصِّيصَى مِنَ اللَّهِ لَهُ بِهَا دُونَ سَائِرِ رُسُلِهِ - الَّذِينَ قَهَرَتْهُمُ الْجَبَابِرَةُ ، وَاسْتَذَلَّتْهُمُ الْأُمَمُ الْفَاجِرَةُ ، فَتَعَفَّتْ بَعْدَهُمْ مِنْهُمُ الْآثَارُ ، وَأَخْمَلَتْ ذِكْرَهُمُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ - وَدُونَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُرْسَلًا إِلَى أُمَّةٍ دُونَ أُمَّةٍ ، وَخَاصَّةٍ دُونَ عَامَّةٍ ، وَجَمَاعَةٍ دُونَ كَافَّةٍ .
فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَرَّمَنَا بِتَصْدِيقِهِ ، وَشَرَّفَنَا بِاتِّبَاعِهِ ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الْإِقْرَارِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَا دَعَا إِلَيْهِ وَجَاءَ بِهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ، أَزْكَى صَلَوَاتِهِ ، وَأَفْضَلَ سَلَامِهِ ، وَأَتَمَّ تَحِيَّاتِهِ .
ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مِنْ جَسِيمِ مَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ أُمَّةَ نَبِيِّنَا
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْفَضِيلَةِ ، وَشَرَّفَهُمْ بِهِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ مِنَ الْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ ، وَحَبَاهُمْ بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ السَّنِيَّةِ ، حِفْظَهُ مَا حَفِظَ عَلَيْهِمْ - جَلَّ ذِكْرُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ - مِنْ وَحْيِهِ وَتَنْزِيلِهِ ، الَّذِي جَعَلَهُ عَلَى حَقِيقَةِ نُبُوَّةِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَالَةً ، وَعَلَى مَا خَصَّهُ بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ عَلَامَةً وَاضِحَةً ، وَحُجَّةً بَالِغَةً ، أَبَانَهُ بِهِ مِنْ كُلِّ كَاذِبٍ وَمُفْتَرٍ ، وَفَصَلَ بِهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ كُلِّ جَاحِدٍ وَمُلْحِدٍ ، وَفَرَّقَ بِهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ كُلِّ كَافِرٍ وَمُشْرِكٍ; الَّذِي لَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا ، مِنْ جِنِّهَا وَإِنْسِهَا وَصَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا ، عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ لَمْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا . فَجَعَلَهُ لَهُمْ فِي دُجَى الظُّلَمِ نُورًا سَاطِعًا ، وَفِي سُدَفِ الشُّبَهِ شِهَابًا لَامِعًا وَفِي مَضَلَّةِ الْمَسَالِكِ دَلِيلًا هَادِيًا ، وَإِلَى سُبُلِ النَّجَاةِ وَالْحَقِّ حَادِيًا ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=16يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [ سُورَةُ الْمَائِدَةِ : 16 . حَرَسَهُ بِعَيْنٍ
[ ص: 6 ] مِنْهُ لَا تَنَامُ ، وَحَاطَهُ بِرُكْنٍ مِنْهُ لَا يُضَامُ ، لَا تَهِي عَلَى الْأَيَّامِ دَعَائِمُهُ ، وَلَا تَبِيدُ عَلَى طُولِ الْأَزْمَانِ مَعَالِمُهُ ، وَلَا يَجُوزُ عَنْ قَصْدِ الْمَحَجَّةِ تَابِعُهُ وَلَا يَضِلُّ عَنْ سُبُلِ الْهُدَى مُصَاحِبُهُ . مَنِ اتَّبَعَهُ فَازَ وَهُدِيَ ، وَمَنْ حَادَ عَنْهُ ضَلَّ وَغَوَى ، فَهُوَ مَوْئِلُهُمُ الَّذِي إِلَيْهِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَئِلُونَ ، وَمَعْقِلُهُمُ الَّذِي إِلَيْهِ فِي النَّوَازِلِ يَعْقِلُونَ وَحِصْنُهُمُ الَّذِي بِهِ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ يَتَحَصَّنُونَ ، وَحِكْمَةُ رَبِّهِمُ الَّتِي إِلَيْهَا يَحْتَكِمُونَ ، وَفَصْلُ قَضَائِهِ بَيْنَهُمُ الَّذِي إِلَيْهِ يَنْتَهُونَ ، وَعَنِ الرِّضَى بِهِ يَصْدُرُونَ ، وَحَبْلُهُ الَّذِي بِالتَّمَسُّكِ بِهِ مِنَ الْهَلَكَةِ يَعْتَصِمُونَ .
اللَّهُمَّ فَوَفِّقْنَا لِإِصَابَةِ صَوَابِ الْقَوْلِ فِي مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ ، وَعَامِّهِ وَخَاصِّهِ ، وَمُجْمَلِهِ وَمُفَسَّرِهِ ، وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ ، وَظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ ، وَتَأْوِيلِ آيِهِ وَتَفْسِيرِ مُشْكِلِهِ . وَأَلْهِمْنَا التَّمَسُّكَ بِهِ وَالِاعْتِصَامَ بِمُحْكَمِهِ ، وَالثَّبَاتَ عَلَى التَّسْلِيمِ لِمُتَشَابِهِهِ . وَأَوْزِعْنَا الشُّكْرَ عَلَى مَا أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ حِفْظِهِ وَالْعِلْمِ بِحُدُودِهِ . إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ قَرِيبُ الْإِجَابَةِ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى
مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَسَلِّمَ تَسْلِيمًا .
اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ ، رَحِمَكُمِ اللَّهُ ، أَنَّ أَحَقَّ مَا صُرِفَتْ إِلَى عِلْمِهِ الْعِنَايَةُ ، وَبَلَغَتْ فِي مَعْرِفَتِهِ الْغَايَةُ ، مَا كَانَ لِلَّهِ فِي الْعِلْمِ بِهِ رِضًى ، وَلِلْعَالِمِ بِهِ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ هُدًى ، وَأَنَّ أَجْمَعَ ذَلِكَ لِبَاغِيهِ كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ ، وَتَنْزِيلُهُ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ ، الْفَائِزُ بِجَزِيلِ الذُّخْرِ وَسَنِيِّ الْأَجْرِ تَالِيهِ ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ .
وَنَحْنُ - فِي شَرْحِ تَأْوِيلِهِ ، وَبَيَانِ مَا فِيهِ مِنْ مَعَانِيهِ - مُنْشِئُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ ، كِتَابًا مُسْتَوْعِبًا لِكُلِّ مَا بِالنَّاسِ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ عِلْمِهِ جَامِعًا ، وَمِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ
[ ص: 7 ] غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ كَافِيًا . وَمُخْبِرُونَ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِمَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنَ اتِّفَاقِ الْحُجَّةِ فِيمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ مِنْهُ وَاخْتِلَافِهَا فِيمَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ مِنْهُ . وَمُبَيِّنُو عِلَلِ كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ ، وَمُوَضِّحُو الصَّحِيحِ لَدَيْنَا مِنْ ذَلِكَ ، بِأَوْجَزِ مَا أَمْكَنَ مِنَ الْإِيجَازِ فِي ذَلِكَ ، وَأَخْصَرِ مَا أَمْكَنَ مِنْ الِاخْتِصَارِ فِيهِ .
وَاللَّهَ نَسْأَلُ عَوْنَهُ وَتَوْفِيقَهُ لِمَا يُقَرِّبُ مِنْ مَحَابِّهِ ، وَيُبْعِدُ مِنْ مَسَاخِطِهِ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى صَفْوَتِهِ مَنْ خَلْقِهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلِّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
وَأَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ مِنَ الْقِيلِ فِي ذَلِكَ : الْإِبَانَةُ عَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي الْبِدَايَةُ بِهَا أَوْلَى ، وَتَقْدِيمُهَا قَبْلَ مَا عَدَاهَا أَحْرَى . وَذَلِكَ : الْبَيَانُ عَمَّا فِي آيِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي مِنْ قِبَلِهَا يَدْخُلُ اللَّبْسُ عَلَى مَنْ لَمْ يُعَانِ رِيَاضَةَ الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَلَمْ تَسْتَحْكِمْ مَعْرِفَتُهُ بِتَصَارِيفِ وُجُوهِ مَنْطِقِ الْأَلْسُنِ السَّلِيقِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ .