القول في تأويل قوله ( ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها )
قال أبو جعفر : وهؤلاء فريق آخر من المنافقين ، كانوا يظهرون الإسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليأمنوا به عندهم من القتل والسباء وأخذ الأموال وهم كفار ، يعلم ذلك منهم قومهم ، إذا لقوهم كانوا معهم وعبدوا ما يعبدونه من دون الله ، ليأمنوهم على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم . يقول الله : " كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها " ، يعني : كلما دعاهم [ قومهم ] إلى الشرك بالله ، ارتدوا فصاروا مشركين مثلهم .
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية . [ ص: 27 ]
فقال بعضهم : هم ناس كانوا من أهل مكة أسلموا - على ما وصفهم الله به من التقية - وهم كفار ، ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم . يقول الله : كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها يعني كلما دعاهم [ قومهم ] إلى الشرك بالله ، ارتدوا فصاروا مشركين مثلهم ، ليأمنوا عند هؤلاء وهؤلاء .
ذكر من قال ذلك :
10078 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم " ، قال : ناس كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء ، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا . فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا .
10079 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
10080 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها " ، يقول : كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنة أركسوا فيها . وذلك أن الرجل كان يوجد قد تكلم بالإسلام ، فيقرب إلى العود والحجر وإلى العقرب والخنفساء ، فيقول المشركون لذلك المتكلم بالإسلام : "قل : هذا ربي" ، للخنفساء والعقرب .
وقال آخرون : بل هم قوم من أهل الشرك كانوا طلبوا الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليأمنوا عنده وعند أصحابه وعند المشركين .
ذكر من قال ذلك : [ ص: 28 ]
10081 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم " ، قال : حي كانوا بتهامة ، قالوا : "يا نبي الله ، لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا" ، وأرادوا أن يأمنوا نبي الله ويأمنوا قومهم ، فأبى الله ذلك عليهم ، فقال : " كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها " ، يقول : كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه .
وقال آخرون : نزلت هذه الآية في نعيم بن مسعود الأشجعي .
ذكر من قال ذلك :
10082 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن قال : ثم ذكر السدي نعيم بن مسعود الأشجعي وكان يأمن في المسلمين والمشركين ، ينقل الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين ، فقال : " ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة " ، يقول : إلى الشرك .
وأما تأويل قوله : " كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها " ، فإنه كما : -
10083 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : " كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها " ، قال : كلما ابتلوا بها ، عموا فيها .
10084 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : كلما عرض لهم بلاء ، هلكوا فيه .
والقول في ذلك ما قد بينت قبل ، وذلك أن "الفتنة" في كلام العرب ، الاختبار ، و "الإركاس" الرجوع . .
فتأويل الكلام : كلما ردوا إلى الاختبار ليرجعوا إلى الكفر والشرك ، رجعوا إليه .