الآية الثالثة
قوله تعالى : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } .
فيها ثلاث مسائل : المسألة الأولى : في : وجه نزولها
فيه ستة أقوال :
الأول : { أنها نزلت مخصوصة في رجل من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها أم مهزول ، كانت من بغايا الزانيات ، وشرطت له أن تنفق عليه ، فأنزل الله هذه الآية } ; قاله ابن عمر . ومجاهد
الثاني : أنها نزلت في شأن رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد ، وكان رجلا يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة قال : وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق ، وكانت صديقة له ، وأنه كان وعد رجلا من أسارى مكة يحمله قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة .
قال : فجاءت عناق فأبصرت [ ص: 337 ] سواد ظلي بجنب الحائط ، فلما انتهت إلي عرفتني ، فقالت : مرثد ، فقلت : مرثد ، فقالت : مرحبا وأهلا . هلم ، فبت عندنا الليلة ، فقلت : يا عناق ; إن الله حرم الزنا قالت : يا أهل الخيام ; هذا الرجل يحمل أسراكم ، فتبعني ثمانية ، وسلكت الخندمة ، فانتهيت إلى غار ، فدخلت فجاءوا حتى قاموا على رأسي ، فبالوا فتطاير بولهم على رأسي ، وعماهم الله عني . قال : ثم رجعوا ، ورجعت إلى صاحبي فحملته ، وكان رجلا ثقيلا ، حتى انتهيت إلى الإذخر ، ففككت عنه كبله ، فجعلت أحمله ، ويعينني ، حتى قدمت المدينة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، أنكح عناقا ، فأمسك رسول الله فلم يرد شيئا حتى نزلت : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { مرثد ، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك إلى آخر الآية ، فلا تنكحها } . يا
الثالث : أنها نزلت في أهل الصفة ، وكانوا قوما من المهاجرين لم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر ، فنزلوا صفة المسجد ، وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ، ويأوون إلى الصفة بالليل ، وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور ، مخاصيب بالكسوة والطعام ، فهم أهل الصفة أن يتزوجوهن ، فيأووا إلى مساكنهن ، ويأكلوا من طعامهن وكسوتهن ، فنزلت فيهم هذه الآية ; قاله . ابن أبي صالح
وقاله ، وزاد : أنهن كن يدعين الجهنميات ، نسبة إلى جهنم . مجاهد
الرابع : معناه الزاني لا يزني إلا بزانية ، والزانية لا تزني إلا بزان وروي عن . ابن عباس
الخامس : أنها مخصوصة في الزاني لا ينكح إلا زانية محدودة ، ولا ينكح الزانية المحدودة إلا زان روي عن ابن مسعود وغيرهما . والحسن
السادس : أنه عام في تحريم . نكاح الزانية على العفيف ، والعفيف على الزانية
[ ص: 338 ] المسألة الثانية :
هذه الآية من مشكلات القرآن من وجهين :
أحدهما : أن هذه صيغة الخبر ، وهو على معناه ، كما بيناه في غير موضع وشرحناه ، ردا على من يقول : إن الخبر يرد بمعنى الأمر ; وذلك أن الله أخبر أن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة . ونحن نرى الزاني ينكح العفيفة .
وقال أيضا : والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ، ونحن نرى الزانية ينكحها العفيف ، فكيف يوجد خلاف ما أخبر الله به عنه ؟ وخبره صدق ، وقوله حق لا يجوز أن يوجد مخبره بخلاف خبره ; ولهذا أخذ العلماء فيها مآخذ متباينة ، ولم أسمع فيها كلاما . وقد كان لمالك يرى أن الرجل إذا زنى بالمرأة ثم نكحها أنهما زانيان ، ما عاشا . ابن مسعود
وقال : " أوله سفاح وآخره نكاح " . وقال ابن عباس مثله . وقال : " هذا مثل رجل سرق ثمرة ثم اشتراها " ، وأخذ ابن عمر بقول مالك ، فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد . ابن مسعود
وروى الشافعي أن ذلك الماء لا حرمة له ، ورأى وأبو حنيفة أن مالك وإن كان لا حرمة له ، فماء النكاح له حرمة ، ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح ، فيخلط الحرام بالحلال ، ويمزج ماء المهانة بماء العزة ; فكان نظر ماء الزنا أشد من نظر سائر فقهاء الأمصار . مالك
المسألة الثالثة : في التنقيح :
وأما من قال : إنها نزلت في البغايا فظاهر في الرواية . وأما من قال : إن الزاني المحدود وهو الذي ثبت زناه لا ينكح إلا زانية محدودة ، فكذلك روي عن الحسن ، وأسنده قوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا معنى لا يصح نظرا كما لم يثبت نقلا . وهل يصح أن يوقف نكاح من حد من الرجال على نكاح من حد من النساء ; فبأي أثر يكون ذلك أو على أي أصل يقاس من الشريعة ؟ [ ص: 339 ] والذي عندي أن النكاح لا يخلو من أن يراد به الوطء ، كما قال ، أو العقد ؟ فإن أريد به الوطء فإن معناه لا يكون زنا إلا بزانية ، وذلك عبارة عن أن الوطأين من الرجل والمرأة زنا من الجهتين ، ويكون تقدير الآية وطء الزنا لا يقع إلا من زان أو مشرك ، وهذا يؤثر عن ابن عباس ; وهو معنى صحيح . ابن عباس
فإن قيل : وأي فائدة فيه ؟ وكذلك هو .
قلنا : علمناه كذلك من هذا القول ، فهو أحد أدلته .
فإن قيل : فإذا بالغ زنى بصبية أو عاقل بمجنونة ، أو مستيقظ بنائمة ، فإن ذلك من جهة الرجل زنا ، ولا يكون ذلك من جهة المرأة زنا ، فهذا زان ينكح غير زانية ، فيخرج المراد عن بابه الذي تقدم .
قلنا : هو زنا من كل جهة ، إلا أن أحدهما سقط فيه الحد ، والآخر ثبت فيه الحد ، وإن أردنا به العقد كان معناه أن يتزوج الزانية زان ، أو يتزوج زان الزانية ، وتزويج الزانية يكون على وجهين : أحدهما : ورحمها مشغول بالماء الفاسد .
الثاني : أن تكون قد استبرئت .
فإن كان رحمها مشغولا بالماء فلا يجوز نكاحها ، فإن فعل فهو زنا ، لكن لا حد عليه ، لاختلاف العلماء فيه . وأما إن استبرئت فذلك جائز إجماعا .
وقد ثبت عن : بينما ابن عمر في المسجد إذ جاء رجل فلاث عليه لوثا من كلام وهو دهش ، فقال أبو بكر الصديق : " قم فانظر في شأنه ، فإن له شأنا " . فقام إليه لعمر ، فقال : " إن ضيفا ضافه فزنى بابنته " فضرب عمر في صدره . وقال : " قبحك الله ، ألا سترت على ابنتك " ، فأمر بهما عمر فضربا الحد ، ثم زوج أحدهما الآخر ، ثم أمر بهما أن يغربا حولا . أبو بكر
وقد روى أن رجلا استكره جارية فافتضها ، فجلده نافع ، ولم يجلدها ، ونفاه سنة ، ثم جاء فزوجه إياها بعد ذلك ، وجلده أبو بكر ونفى أحدهما إلى عمر خيبر ، والآخر إلى فدك . [ ص: 340 ]
وروى الزهري أن رجلا فجر بامرأة وهما بكران ، فجلدهما ، ونفاهما ، ثم زوجه إياها من بعد الحول . وهذا أقرب إلى الصواب وأشبه بالنظر ، وهو أن يكون أبو بكر وقد روى الزواج بعد تمام التغريب عن مالك يحيى بن سعيد ، عن قال : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك . قال : نسخت هذه الآية الآية التي بعدها : { سعيد بن المسيب وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم }
، وقد بينا في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ من علوم القرآن أن هذا ليس بنسخ ، وإنما هو تخصيص عام وبيان لمحتمل ، كما تقتضيه الألفاظ وتوجيه لأصول ، من فسر النكاح بالوطء أو بالعقد وتركيب المعنى عليه . والله أعلم .