المسألة الأولى : قوله : { جعل لكم من أنفسكم أزواجا } : يعني من جنسكم ، يعني من الآدميين ، ردا على العرب التي كانت تعتقد أنها تتزوج الجن وتباضعها ، حتى روت أن عمرو بن هند تزوج منهم غولا ، وكان يخبؤها عن البرق ، لئلا تراه فتنفر ، فلما كان في بعض الليالي لمح البرق وعاينته السعلاة [ ص: 141 ] فقالت : عمرو ، ونفرت فلم يرها أبدا ، وهذا من أكاذيبها ، وإن كان جائزا في حكم الله وحكمته ، ردا على الفلاسفة الذين ينكرون وجود الجن ، ويحيلون طعامهم ونكاحهم . وقيل : أراد به قوله : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها } حسبما تقدم بيانه في سورة الأعراف .
المسألة الثانية : قوله : { أزواجا } : زوج المرأة هي ثانيته ، فإنه فرد ، فإذا انضافت إليه كانا زوجين ، وإنما جعلت الإضافة إليه دونها ; لأنه أصلها في الوجود ، وقوامها في المعاش ، وأميرها في التصرف ، وعاقلها في النكاح ، ومطلقها من قيده ، وعاقل الصداق والنفقة عنها فيه ، وواحد من هذا كله يكفي للأصالة ، فكيف بجميعها ؟ .
المسألة الثالثة : قوله : { وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } : وجود البنين يكون منهما معا ، ولكنه لما كان تخلق المولود فيها ، ووجوده ذا روح وصورة بها ، وانفصاله كذلك عنها ، أضيف إليها ، ولأجله تبعها في الرق والحرية ، وصار مثلها في المالية .
سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبو الوفاء علي بن عقيل يقول : إنما تبع الولد الأم في المالية ، وصار بحكمها في الرق والحرية ; لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ، ولا مالية فيه ، ولا منفعة مثبوتة عليه ، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها ، فلأجل ذلك تبعها ، كما لو أكل رجل تمرا في أرض رجل ، فسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل ، فصارت نخلة ، فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة ; لأنها انفصلت من الآكل ولا قيمة لها ; وهذه من البدائع .
المسألة الرابعة : في تفسير قوله : { وحفدة } : وفيها ثمانية أقوال :
الأول : أنهم الأختان ; قاله . ابن مسعود
[ ص: 142 ] الثاني : أنهم الأصهار ; قاله . ابن عباس
الثالث : قال محمد بن الحسن : الختن الزوج ، ومن كان من ذوي رحمه . والصهر من كان من قبل المرأة من الرجال .
الرابع : أنها ضد ذلك ; قاله . ابن الأعرابي
الخامس : قال : الختن من كان من الرجال من قبل المرأة ، والأصهار منهما جميعا . الأصمعي
السادس : الحفدة : أعوان الرجل وخدمه ، وروي عن أنه قال : من أعانك فقد حفدك ; وبه قال ابن عباس عكرمة .
السابع : حفدة الرجل أعوانه من ولده .
الثامن : أنه ولد الرجل وولد ولده .
المسألة الخامسة : هذه الأقوال كما سردناها إما أخذت عن لغة ، وإما عن تنظير ، وإما عن اشتقاق ، وقد قال الله تعالى : { وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا } ; فالنسب ما دار بين الزوجين . والصهر ما تعلق بهما ، ويقال أختان المرأة وأصهار الرجل عرفا ولغة ، ويقال لولد الولد : الحفيد ، ويقال : حفيده يحفده بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل إذا خدمه ، ومنه قولهم في الدعاء : وإليك نسعى ونحفد . فالظاهر عندي من قوله : { بنين } أولاد الرجل من صلبه ، ومن قوله : { حفدة } أولاد ولده . وليس في قوة اللفظ أكثر من هذا .
ونقول : تقدير الآية على هذا : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ، ومن أزواجكم بنين ، ومن البنين حفدة . ويحتمل أن يريد به : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ، فيكون البنون من الأزواج ، والحفدة من الكل من زوج وابن ، يريد به خداما يعني أن الأزواج والبنين يخدمون الرجل بحق قواميته وأبوته . وقد قال علماؤنا : يخدم الرجل زوجه فيما خف من الخدمة ويعينها . وقد قالوا في موضع آخر : يخدمها . وقالوا في موضع آخر : ينفق على خادم واحدة .
وفي رواية على أكثر من [ ص: 143 ] واحدة على قدر الثروة والمنزلة ; وهذا أمر دائر على العرف والعادة الذي هو أصل من أصول الشريعة ; فإن نساء الأعراب وسكان البادية يخدمن أزواجهن حتى في استعذاب الماء وسياسة الدواب . ونساء الحواضر يخدم المقل منهم زوجه فيما خف ويعينها . وأما أهل الثروة فيخدمون أزواجهم ويترفهن معهم إذا كان لهم منصب في ذلك ، وإن كان أمرا مشكلا شرطت عليه الزوجة ذلك ، فتشهد عليه أنه قد عرف أنها ممن لا تخدم نفسها ، فالتزم إخدامها ; فينفذ ذلك عليه ، وتنقطع الدعوى فيه . وهذا هو القول الصحيح في الآية لما قدمناه .
وقد روى ابن القاسم عن قال : وسألته عن قول الله : { مالك بنين وحفدة } ما الحفدة ؟ قال : الخدم والأعوان في رأي . ويروى أن الحفدة البنات يخدمن الأبوين في المنازل . ويروى أننافع بن الأزرق سأل عن قوله : { ابن عباس وحفدة } قال : هم الأعوان ; من أعانك فقد حفدك . قال : فهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، وتقوله . أما سمعت قول الشاعر :
حفد الولائد حولهن وألقيت بأكفهن أزمة الأجمال
وتصريف الفعل حفد يحفد كما قدمنا حفدا وحفودا وحفدانا .وقال : إن الحفدة عند الخليل بن أحمد العرب الخدم ، وكفى فصاحة ، وهو محض بمالك العرب في قوله : إنهم الخدم . وبقول ، وهو ثقة في نقله عن الخليل العرب ; فخرجت خدمة الولد والزوجة من القرآن بأبدع بيان . وقد روى وغيره واللفظ له عن البخاري أن { سهل بن سعد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعرسه ، فكانت امرأته خادمهم يومئذ ، وهي العروس ، فقال : أوتدرون ما أنقعت لرسول الله ؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور أبا أسيد الساعدي } .
[ ص: 144 ] وكذلك روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكون في مهنة أهله ، فإذا سمع الأذان خرج عائشة } . وهذا هو قول عن : ويعينها . مالك
وفي أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه { } . وقد روى كان يخصف النعل ، ويقم البيت ، ويخيط الثوب الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم { بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف } . وقال { كان يعود المريض ، ويشهد الجنازة ، ويركب الحمار ، ويجيب دعوة العبد ، وكان يوم وقد قيل لها : ما كان رسول الله يعمل في البيت ؟ قالت : كان بشرا من البشر ، يفلي ثوبه ، ويحلب شاته ، ويخدم نفسه عائشة } . عن
قال القاضي أبو بكر : حتى في وضوئه ; فروي من طريق عن { أنه بات عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيت خالته ابن عباس ميمونة في ليلة كانت لا تصلي فيها ، فأوى رسول الله إلى فراشه ، فلما كان في جوف الليل قام فخرج إلى الحجرة فقلب في أفق السماء وجهه ، ثم قال : نامت العيون ، وغارت النجوم ، والله حي قيوم ثم عمد إلى قربة في جانب الحجرة فحل شناقها ثم توضأ فأسبغ الوضوء } . خرجه ، وقد بيناه في كتاب التقصي وغيره . ابن حماد الحافظ
ومن أفضل ما يخدم المرء فيه نفسه العبادات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه حتى يكون عملها كلها لوجه الله ، وعمل شروطها وأسبابها كلها منه ; فذلك أعظم للأجر إذا أمكن . وقد خرج في كتاب الصلاة عن البخاري : { الأسود بن يزيد ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قال : كان يكون في مهنة أهله ، فإذا حضرت الصلاة [ ص: 145 ] خرج عائشة } . ومن الرواة من قال : إذا سمع الأذان خرج قال الإمام يعني الإقامة . سألت