قوله عز وجل:
وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا
قال : معنى قوله: الطبري وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس أي: في منعك [ ص: 503 ] يا محمد وحياطتك وحفظك، فالآية إخبار له بأنه محفوظ من الكفرة، آمن أن يقتل أو ينال بمكروه عظيم، أي: فلتبلغ رسالة ربك ولا تتهيب أحدا من المخلوقين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا تأويل بين جار مع اللفظ، وقد روي نحوه عن الحسن بن أبي الحسن، إلا أنه لا يناسب ما بعده مناسبة شديدة، ويحتمل أن يجعل الكلام مناسبا لما بعده، توطئة له، فأقول: اختلف الناس في الرؤيا -فقال الجمهور: هي رؤيا عين ويقظة، وهي ما رأه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء، قالوا: فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الإسراء بما رأى في تلك الليلة من العجائب، قال الكفار: إن هذا لعجيب، تخب الحداة إلى والسدي، بيت المقدس شهرين إقبالا وإدبارا، ويقول محمد عليه الصلاة والسلام- إنه جاءه من ليلة وانصرف عنه، فافتتن بهذا التلبيس قوم من ضعفة المسلمين فارتدوا، وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآيات.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فعلى هذا يحسن أن يكون معنى قوله: وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس ، أي: في إضلالهم وهدايتهم، وأن كل واحد ميسر لما خلق له، أي: فلا تهتم أنت بكفر من كفر، ولا تحزن عليهم، فقد قيل لك: لا تحزن عليهم، إن الله محيط بهم، لأمرهم، وهو جعل هذه فتنة ليكفر من سبق عليه الكفر. وسميت الرؤية في هذا التأويل رؤيا إذ هما مصدران من: رأى. مالك
قال : جاء ذلك على اعتقاد من اعتقد أنها منامة وإن كانت الحقيقة غير ذلك. النقاش
وقالت رضي الله عنهما: عائشة رؤيا منام، وهذا قول الجمهور على خلافه، وهذه الآية تقتضي بفساده، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها، وما كان أحد لينكرها، وقد ذكر هذا مستوعبا في صدر السورة. الرؤيا في الإسراء
وقال رضي الله عنهما: الرؤيا التي في هذه الآية هي رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل ابن عباس مكة ، فعجل في سنة الحديبية، فرد، فافتتن المسلمون بذلك، فنزلت الآيات.
[ ص: 504 ] وقال إنما هذه الرؤيا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى سهل بن سعد: بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، فاهتم لذلك وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات، فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من تملكهم وصعودهم على المنابر، إنما يجعلها الله فتنة للناس وامتحانا.
ويجيء قوله تعالى: أحاط بالناس ، أي: بإقداره، وأن كل ما قدره نافذ، فلا تهتم بما يكون بعدك من ذلك. وقد قال في خطبته في شأن بيعته الحسن بن علي لمعاوية: وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي هذا التأويل نظر، ولا يدخل في هذه الرؤيا رضي الله عنه، ولا عثمان بن عفان ولا عمر بن عبد العزيز، معاوية.
وقوله تعالى: والشجرة الملعونة في القرآن معطوفة على قوله سبحانه: "الرؤيا"، أي: جعلنا الرؤيا والشجرة فتنة، و"الشجرة" هنا -في قول الجمهور- هي شجرة الزقوم، وذلك أن أمرها لما نزل في سورة الصافات قال أبو جهل وغيره: هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنها تنبت الشجر، وما نعرف الزقوم إلا التمر بالزبد، ثم أمر أبو جهل جارية له فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه: تزقموا، فافتتن أيضا بهذه المقالة بعض الضعفاء، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه إنما جعل الإسراء وذكر شجرة الزقوم اختبارا ليكفر من سبق عليه الكفر، ويصدق من سبق له الإيمان، كما روي أن رضي الله عنه قيل له صبيحة الإسراء: إن صاحبك يزعم أنه جاء البارحة أبا بكر الصديق بيت المقدس وانصرف منه، فقال: إن كان قال ذلك فقد صدق، فقيل له: أفتصدق قبل أن تسمع منه؟ فقال: أين عقولكم؟ أنا أصدقه بخبر السماء فكيف لا أصدقه بخبر بيت المقدس، والسماء أبعد منها بكثير؟
[ ص: 505 ] وقالت فرقة: الشجرة إشارة إلى القوم المذكورين قبل في الرؤيا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا قول ضعيف محدث، وليس هذا عن ولا مثله. وقال سهل بن سعد، -عن الطبري رضي الله عنهما-: إن الشجرة الملعونة : يعني: الملعون آكلها لأنها لم يجر لها ذكر. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويصح أن يراد: "الملعونة" هنا: فأكد الأمر بقوله: في القرآن ، وقالت فرقة: الملعونة: المبعدة المكروهة، وهذا أراد; لأنه لعنها بلفظ اللعنة المتعارف، وهذا قريب في المعنى من الذي قبله. وأيضا فما ينبت في أصل الجحيم، فهو في نهاية البعد من رحمة الله.
وقوله تعالى: ونخوفهم ، يريد: إما كفار مكة ، وإما الملوك من بني أمية بعد الخلافة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: والأول منهما أصوب كما قلنا قبل. "الخلافة بعدي ثلاثون، ثم تكون ملكا عضودا"،
وقوله تعالى: فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا يريد كفرهم وانتهاكهم فيه، كقول أبي جهل في الزقوم والتزقم، فقد قال : إن في ذلك نزلت. النقاش
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي نحوه، وقرأ : "ويخوفهم" بالياء، وقرأ الجمهور: "ونخوفهم" بالنون. الأعمش