قوله عز وجل:
ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون
"ذلك" إشارة إلى الغضب والعذاب الذي توعد به قبل هذه الآية، والضمير في "أنهم" لمن شرح بالكفر صدرا ، ولما فعلوا فعل من استحب ألزموا ذلك وإن كانوا غير [ ص: 415 ] مصدقين بالآخرة، لكن الأمر في نفسه بين، فمن حيث أعرضوا عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره، وهذه الآية علق فيها العقاب بتكسبهم وذلك أن استحبابهم زينة الدنيا ولذات الكفر هو التكسب.
وقوله: وأن الله لا يهدي القوم الكافرين إشارة إلى اختراع الله تعالى الكفر في قلوبهم، ولا شك أن فجمعت الآية بين الأمرين، وعلى هذا مرت عقيدة كفر الكافر الذي يتعلق به العقاب إنما هو باختراع من الله تعالى وتكسب من الكافر، أهل السنة. وقوله: لا يهدي القوم الكافرين عموم على أنه لا يهديهم من حيث هم كفار في نفس كفرهم، أو عموم يراد به الخصوص فيمن يوافي.
وقوله تعالى: أولئك الذين طبع الله على قلوبهم الآية، عبارة عن صرف الله لهم عن طريق الهدى، واختراع الكفر المظلم في قلوبهم، وتغليب الإعراض على نظرهم، فكأنه سد بذلك طرق هذه الحواس حتى لا ينتفع بها في اعتبار وتأمل، وقد تقدم القول وذكر الاختلاف في الطبع والختم في سورة البقرة، وهل هو حقيقة أو مجاز. و "السمع": اسم جنس، وهو مصدر في الأصل، فلذلك وحد، ونبه على تكسبهم الإعراض عن النظر فوصفهم بالغفلة، وقد سبق شرح "لا جرم" في هذه السورة.
وقوله تعالى: ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا الآية. قال رضي الله عنهما: كان قوم من أهل ابن عباس مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم إلى آخر الآية، قال: وكتب بها إلى من بقي من المسلمين بمكة ، وأن لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم ومن الناس من يقول آمنا بالله إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا ويئسوا من [ ص: 416 ] كل خير، ثم نزلت فيهم: ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجا، فلحقهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
جاءت الرواية هكذا أنهم بعد نزول الآية خرجوا، فيجيء الجهاد الذي ذكر في الآية جهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وروت طائفة أنهم خرجوا واتبعوا وجاهدوا متبعيهم، فقتل من قتل، ونجا من نجا، فنزلت الآية حينئذ، فمعنى بالجهاد المذكور جهادهم لمتبعيهم.
وقال : نزلت هذه الآية في ابن إسحاق عمار بن ياسر، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وذكر في هذا عندي غير قويم، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء، وإنما هؤلاء من تاب ممن شرح بالكفر صدرا، فتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية. عمار
وقال ، عكرمة نزلت هذه الآية في شأن والحسن: عبد الله بن أبي سرح وأشباهه، فكأنه قال: من بعد ما فتنهم الشيطان. وهذه الآية مدنية، ولا أعلم في ذلك خلافا، وإن وجد فهو ضعيف.
وقرأ الجمهور: "من بعد ما فتنوا" بضم الفاء وكسر التاء، وقرأ وحده بفتحها، فإن كان الضمير للمعذبين فيجيء بمعنى: فتنوا أنفسهم بما أعطوا للمشركين من القول، كما فعل ابن عامر وأما على قراءة الجمهور فإن كان الضمير للمعذبين فهو بمعنى: من بعد ما فتنهم المشركون، وإن كان الضمير للمشركين فهو بمعنى: من بعد ما فتنهم الشيطان. والضمير في "بعدها" عائد على الفتنة، أو على الفعلة، أو الهجرة، أو التوبة، والكلام يعطيها، وإن لم يجر لها ذكر صريح. عمار بن ياسر،
وقوله تعالى: يوم تأتي كل نفس تجادل ، المعنى: لغفور رحيم يوم، وقوله: كل نفس أي: "كل ذي نفس". ثم أجري الفعل على المضاف إليه المذكور فأنث [ ص: 417 ] العلامة، و"نفس" الأولى هي النفس المعروفة، والثانية هي بمعنى الذات، كما تقول: نفس الشيء وعينه، أي ذاته. وتوفى كل نفس أي: تجازى، كل من أحسن بإحسانه، وكل من أساء بإساءته.
وظاهر الآية أن كل نفس تجادل، مؤمنة كانت أو كافرة، فإذا جادل الكفار بكذبهم وجحدهم للكفر شهدت عليهم الجوارح والرسل وغير ذلك بحسب الطوائف، فحينئذ لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون ، فتجتمع آيات القرآن باختلاف المواطن، وقالت فرقة: قول كل أحد من الأنبياء وغيرهم: نفسي نفسي، وهذا ليس بجدال ولا احتجاج، إنما هو مجرد رغبة.