والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين
"الأنعام": الإبل والبقر والغنم، وأكثر ما يقال: نعم وأنعام للإبل، ويقال للجموع، ولا يقال للغنم مفردة، ونصبها إما عطفا على "الإنسان"، وإما بفعل مقدر، وهو أوجه.
و "الدفء": السخانة وذهاب البرد بالأكسية، وذكر النحاس عن الأموي قال: الدفء في لغة بعضهم: تناسل الإبل، وقال رضي الله عنهما: نسل كل شيء، والمعنى الأول هو الصحيح. وقرأ ابن عباس ، الزهري : "دف" بضم الفاء وشدها وتنوينها. وأبو جعفر
و "المنافع": ألبانها وما تصرف منها، ودهونها وحرثها والنضح عليها، وغير ذلك، ثم ذكر "الأكل" الذي هو من جميعها.
وقوله تعالى: ولكم فيها جمال أي: في المنظر، حين تريحون معناه: حين [ ص: 329 ] تردونها وقت الرواح إلى المنازل فتأتي بطانا ممتلئة الضروع. و"تسرحون" معناه: تخرجونها غدوة إلى السرح، تقول: "سرحت السائمة" إذا أرسلتها تسرح، فسرحت هي، كرجع رجعته، وهذا الجمال لمالكها ولمحبيه وعلى حسدته، وهذا المعنى كقوله تعالى: المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، وقرأ ، عكرمة : "حينما تريحون وحينا تسرحون"، وقرأت فرقة: "حينا تريحون". والضحاك
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهي ضعيفة، وأظنها تصحيفا.
و "الأثقال": الأمتعة، وقيل: المراد هنا الأجسام، كقوله تعالى: وأخرجت الأرض أثقالها ، أي بني آدم ، واللفظ يحتمل المعنيين، قال : ومنه سمي الإنس والجن الثقلان. وقوله: النقاش إلى بلد أي: إلى أي بلد توجهتم بحسب اختلاف أغراض الناس، وقال ، عكرمة ، وابن عباس المراد والربيع بن أنس: مكة ، وفي الآية -على هذا- حض على الحج. و "الشق": المشقة، ومنه قول الشاعر :
وذي إبل يسعى ويحسبها له ... أخي نصب من شقها ودؤوب
[ ص: 330 ] أي: من مشقتها. ويقال فيها: شق وشق، أي: مشقة، وقرأ أبو جعفر القاري، وعمرو بن ميمون، وابن أرقم، ، ومجاهد : "بشق" بفتح الشين، ورويت عن والأعرج ، نافع ، وذهب وأبي عمرو إلى أن معنى الفراء بشق الأنفس أي: بذهاب نصفها، كأنها قد ذابت تعبا ونصبا، كما تقول لرجل: لا تقدر على كذا إلا بذهاب جل نفسك، وبقطعة من كبدك ونحو هذا من المجاز، وذهبوا في فتح الشين إلى أنه مصدر: شق يشق. ثم أوجب الله رأفته ورحمته في هذه النعم التي أذهبت المشقات ورفعت الكلف.
وقوله تعالى: والخيل والبغال والحمير عطف، أي: وخلق الخيل، وقرأ : "والخيل والبغال والحمير" بالرفع في كلها، وسميت الخيل خيلا لاختيالها في المشية، أفهمه أعرابي ابن أبي عبلة وقوله: "وزينة" نصب بإضمار فعل تقديره: "وجعلنا زينة"، وقرأ لأبي عمرو بن العلاء. أبو عياض: "لتركبوها زينة" دون واو، والنصب حينئذ على الحال من الهاء في "تركبوها". وقوله: ويخلق ما لا تعلمون عبرة منصوبة على العموم، أي أن مخلوقات الله من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمها بشر، بل ما يخفى عنه أكثر مما يعلم، وقد روي أن الله تعالى خلق ألف نوع من الحيوان، منها في البر أربعمائة، وبثها بأعيانها في البحر، وزاد فيه مائتين ليست في البر.
وكل من خصص في تفسير هذه الآية شيئا -كقول من قال: سوس الثياب وغير ذلك -فإنما هو على جهة المثال، لا أن ما ذكره هو المقصود في نفسه، قال : الطبري ما لا تعلمون هو ما أعد الله في الجنة لأهلها، وفي النار لأهلها، مما لم تره عين، ولا سمعته أذن، ولا خطر على قلب بشر. واحتج بهذه الآية رحمه الله ومن ذهب مذهبه في كراهية مالك أو تحريمها بحسب الاختلاف في ذلك، وذكر لحوم الخيل والبغال والحمير عن الطبري رضي الله عنهما، قال ابن عباس : سئل ابن جبير عن لحوم الخيل والبغال والحمير فكرهها فاحتج بهذه الآية، وقال: جعل الله الأنعام للأكل وهذه للركوب، وكان ابن عباس الحكم بن عيينة يقول: الخيل والبغال والحمير حرام في كتاب الله تعالى، ويحتج بهذه الآية، وهذه الحجة غير لازمة عند جماعة من العلماء، قالوا: إنما ذكر الله عز وجل عظم منافع الأنعام، وذكر عظم منافع هذه وأهم ما فيها، وليس يقضي [ ص: 331 ] ذلك بأن ما ذكره لهذه لا تدخل هذه فيه، قال : وفي إجماعهم على جواز ركوب ما ذكر للأكل دليل على جواز أكل ما ذكر للركوب. الطبري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي هذا نظر، ولحوم الخيل عند كثير من العلماء حلال، وفي جواز أكلها حديث رضي الله عنهما، وحديث أسماء بنت أبي بكر جابر بن عبد الله: والبغال والحمير مكروهة عند الجمهور، وهو تحقيق مذهب "كنا نأكل الخيل في عهد النبي عليه الصلاة والسلام" رحمه الله، وحجة من ألحق الخيل بالبغال والحمير في الكراهية القياس، إذ قد تشابهت وفارقت الأنعام في أنها لا تجتر، وأنها ذوات حوافر، وأنها لا أكراش لها، وأنها متداخلة في النسل، إذ البغال بين الخيل والحمير، فهذا من جهة النظر، وأما من جهة الشرع فإنها قرنت في هذه الآية وأسقطت الزكاة فيها. مالك
وقوله تعالى: وعلى الله قصد السبيل الآية. هذه أيضا من أجل نعم الله تبارك وتعالى، أي: على الله تقويم طريق الهدى وتبيينه، وذلك بنصب الأدلة وبعث الرسل، وإلى هذا ذهب المتأولون، ويحتمل أن يكون المعنى: أن من سلك السبيل القاصد فعلى الله رحمته ونعيمه وطريقه، وإلى ذلك مصيره، فيكون هذا مثل قوله تعالى: هذا صراط مستقيم ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: أي: لا يفضي إلى رحمتك، و"طريق قاصد" معناه: بين مستقيم قريب، ومنه قول الراجز: "والشر ليس إليك"،
فصد عن نهج الطريق القاصد
[ ص: 332 ] والألف واللام في "السبيل" للعهد، وهي سبيل الشرع، وليست للجنس، ولو كانت للجنس لم يكن فيها جائر.
وقوله: ومنها جائر يريد طريق اليهود والنصارى وغيرهم كعبدة الأصنام، والضمير في "منها" يعود على [السبل] التي يتضمنها معنى الآية، كأنه قال: "ومن السبل جائر"، فأعاد عليها وإن كان لم يجر له ذكر لتضمن لفظة "السبيل" بالمعنى لها، ويحتمل أن يعود الضمير في "منها" على سبيل الشرع المذكورة، وتكون "من" للتبعيض، ويكون المراد فرق الضلالة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: "ومن بنيات الطريق في هذه السبيل ومن شعبها جائر".
وقوله: ولو شاء لهداكم أجمعين معناه: لخلق الهداية في قلوب جميعكم ولم يضل أحد، وقال : معناه: لو شاء لعرض عليكم آية تضطركم إلى الإيمان والاهتداء. الزجاج
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا قول سوء لأهل البدع الذين يرون أن الله لا يخلق أفعال العباد لم يحصله ، ووقع فيه رحمة الله عليه من غير قصد، وفي مصحف الزجاج "ومنكم جائر" ، وقرأ عبد الله بن مسعود: رضي الله عنه: "ومنكم جائر"، والسبيل تذكر وتؤنث. علي بن أبي طالب