[ ص: 226 ] قال : قال الله تعالى { أبو محمد والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم } الآية ، فكان ظاهر هذا أن " المحصنات المذكورات : هن النساء " لأن هذا اللفظ جاء بجمع المؤنث فاعترض علينا أصحاب القياس هاهنا وقالوا لنا : إن النص إنما ورد بجلد الحد من قذف امرأة ، فمن أين لكم أن تجلدوا من قذف رجلا بالزنى ؟ وما هذا إلا قياس منكم ، وأنتم تنكرون القياس ؟ قال رحمه الله : فأجابهم أصحابنا هاهنا بأجوبة كل واحد منها مقنع كاف ، مبطل لاعتراضهم هذا الفاسد - والحمد لله رب العالمين . أبو محمد
فأحد تلك الأجوبة : أن من تقدم من أصحابنا ، قال : جاء النص بالحد على قذف النساء وصح الإجماع بحد من قذف رجلا والإجماع حق وأصل من أصولنا التي نعتمد عليها وقد افترض الله تعالى علينا اتباع الإجماع ، والإجماع ليس إلا عن توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال بعض أصحابنا : بل نص الآية عام للرجال والنساء وإنما أراد الله تعالى النفوس المحصنات قالوا : وبرهان هذا القول ودليل صحته قول الله تعالى في مكان آخر { والمحصنات من النساء } قالوا : فلو كانت لفظة " المحصنات " لا تقع إلا على النساء لما كان لقول الله تعالى " من النساء " معنى وحاش لله من هذا فصح أن المحصنات يقع على النساء والرجال فبين الله تعالى مراده هنالك بأن قال " من النساء " وأجمل الأمر في آية القذف إجمالا .
[ ص: 227 ] قالوا : فإن قال قائل : وإن قوله تعالى { من النساء } كقوله تعالى { وغرابيب سود } و { عشرة كاملة } ؟ قلنا : لا يجوز أن يحمل كلام الله تعالى على تكرار لا فائدة أخرى فيه إلا بنص قرآن ، أو سنة ، أو إجماع ، وليس معكم شيء من هذا في دعواكم أن قوله تعالى { من النساء } تكرار لا فائدة فيه ؟
قال رحمه الله : وهذا جواب حسن ، وأما الأول فلا نقول به ; لأنه حتى لو صح الإجماع على وجوب الحد على قاذف الرجل لما كان في الآية احتجاج وإيجابنا الحد على قاذف العبد وقاذف الكافرة ، لأنه لا إجماع على ذلك ؟ أبو محمد
وأما جوابنا الذي نعتمد عليه ونقطع على صحته ، وأنه مراد الله تعالى بالبرهان الواضح فهو أن الله تعالى إنما أراد بقوله { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } الفروج المحصنات . برهان ذلك : أن الأربعة الشهود المذكورين لا يختلف اثنان من الأمة في أن شهادتهم التي يكلفونها هي أن يشهدوا بأنهم رأوا فرجه في فرجها والجا خارجا - والإجماع قد صح بأن ما عدا هذه الشهادة ليست شهادة بزنى ولا يبرأ بها القاذف من الحد .
فصح أن الرمي المذكور إنما هو الفروج فقط .
وأيضا ، برهان آخر - كما روينا من طريق نا مسلم إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - أنا نا عبد الرزاق عن معمر عن أبيه عن ابن طاوس قال : ما رأيت [ ص: 228 ] أشبه باللمم مما قال ابن عباس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أبو هريرة } ؟ قال إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر ، وزنى اللسان النطق ، والنفس تمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه رحمه الله : فلم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الزنى إلا للفرج فقط وأبطله عن جميع أعضاء الجسم - أولها عن آخرها - إلا أن يصدقه فيها الفرج . أبو محمد
فصح يقينا أن النفس والقلب وجميع أعضاء الجسد ، حاش الفرج لا رمي فيها ، ولا قذف أصلا ، وأنه لا رمي إلا للفروج فقط ، فإذ لا شك في هذا ولا مرية ، فالمراد من قول الله تعالى { والذين يرمون المحصنات } هي بلا شك " الفروج " التي لا يقع " الرمي " إلا عليها ، لا يكون الزنى المرمي به إلا منها ؟
قال رحمه الله : فإن قال قائل : إن " المحصنات " نعت ولا يفرد النعت عن ذكر المنعوت ؟ أبو محمد
قلنا : هذا خطأ ; لأنه دعوى بلا برهان ، لأن القرآن وأشعار العرب مملوء مما جاء في ذلك ، بخلاف هذا .
قال الله تعالى { والصائمين والصائمات } .
وقال الله تعالى { إن المصدقين والمصدقات } . ومثل هذا كثير مما ذكر الله تعالى النعت دون ذكر المنعوت .
وقال الشاعر :
ولا جاعلات العاج فوق المعاصم
فذكر النعت ولم يذكر المنعوت وما نعلم نحويا منع من هذا أصلا ، وإنما ذكرنا هذا لئلا يموه مموه .[ ص: 229 ] ثم إن هذا الاعتراض راجع عليهم ، لأن من قولهم : إنه أراد " النساء المحصنات " [ ص: 230 ] فعلى كل حال قد حذف المنعوت واقتصر على النعت ولا فرق بين اقتصاره تعالى على ذكر " المحصنات " وحذف الفروج على قولنا ، أو حذف " النساء " على قولهم - فسقط اعتراضهم جملة ، وقولنا نحن الذي حملنا عليه الآية الأولى من دعواهم ، لأن قولنا يشهد له النص والإجماع على ما ذكرنا .
وأما دعواهم أن الله تعالى أراد بذلك " النساء " فدعوى عارية لا برهان عليها ، لا من نص ولا إجماع ، لأنهم يخصون تأويلهم هذا ، ويسقطون الحد عن قاذف نساء كثيرة : كالإماء ، والكوافر ، والصغار ، والمجانين ، فقد أفسدوا دعواهم من قرب مع تعريها من البرهان - وبالله تعالى التوفيق .