الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الوجه الرابع والعشرون : أن تجريد الاستواء من اللام واقترانه بحرف على وعطف فعله بثم على خلق السماوات والأرض ، وكونه بعد أيام التحليق وكونه سابقا في الخلق على السماوات والأرض ، وذكر تدبير أمر الخليقة معه الدال على كمال الملك ، فإن العرش سرير المملكة ، فأخبر أن له سريرا ، كما قال أمية :

مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا     بالبنا الأعلى الذي سبق الخل
ق وسوى فوق السماء سريرا

[ ص: 382 ] وصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنشده الأسود بن سريع ، فقد استوى على سرير ملكه يدبر أمر الممالك ، وهذا حقيقة الملك ، فمن أنكر عرشه وأنكر استواءه عليه ، أو أنكر تدبيره ، فقد قدح في ملكه ، فهذه القرائن تفيد القطع بأن الاستواء على حقيقته كما قال أئمة الهدى .

الوجه الخامس والعشرون : أنه لو كان الاستواء بمعنى الملك والقهر لجاز أن يقال : استوى على ابن آدم وعلى الجبل وعلى الشمس وعلى القمر وعلى البحر والشجر والدواب ، وهذا لا يطلقه مسلم .

فإن قيل : هذا جائز ، وإنما خصص العرش بالذكر لأنه أجل المخلوقات وأرفعها وأوسعها ، فتخصيصه بالذكر تنبيه على ما دونه ، قيل : لو كان هذا صحيحا لم يكن ذكر الخاص منافيا لذكر العام ، ألا ترى أن ربوبيته لما كانت عامة للأشياء لم يكن تخصيص العرش بذكره منها كقوله : ( رب العرش العظيم ) مانعا من تعميم إضافتها كقوله : ( رب كل شيء ) فلو كان الاستواء بمعنى الملك والقهر لكان لم يمنع إضافته إلى العرش إضافته إلى كل ما سواه ، وهذا في غاية الظهور .

الوجه السادس والعشرون : أنه إذ فسر الاستواء بالغلبة والقهر عاد معنى هذه الآيات كلها إلى أن الله تعالى أعلم عباده بأنه خلق السماوات والأرض ثم غلب العرش بعد ذلك وقهره وحكم عليه ، أفلا يستحي من الله من في قلبه أدنى وقار لله بكلامه أن ينسب ذلك إليه ، وأنه أراده بقوله : ( الرحمن على العرش استوى ) أي : اعلموا يا عبادي أني بعد فراغي من خلق السماوات والأرض غلبت عرشي وقهرته واستوليت عليه .

الوجه السابع والعشرون : أن أعلم الخلق به قد أطلق عليه أنه فوق عرشه كما في حديث ابن عباس " والله فوق العرش " وفي حديث عبد الله بن رواحة الذي صححه ابن عبد البر وغيره :

وإن العرش فوق الماء طاف     وفوق العرش رب العالمين

[ ص: 383 ] وهذه الفوقية هي تفسير الاستواء المذكور في القرآن والسنة ، والجهمية يجعلون كونه فوق العرش بمعنى أنه خير من العرش وأفضل منه ، كما يقال : الأمير فوق الوزير ، والدينار فوق الدرهم ، والمعنى عندهم : أنه أعلم الأمة بأن الله خير وأفضل من العرش .

فياللعقول : أين في لغة العرب حقيقة أو مجازا أو كناية واستعارة بعيدة أن يقال : استوى على كذا إذا كان أعظم منه قدرا وأفضل ، هذا من لغة الطماطم لا من لغة القوم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتاب الله لا يحتمل هذا التأويل الباطل الذي تنفر عنه العقول ، يوضحه :

الوجه الثامن والعشرون : أن تفضيل الرب تعالى على شيء من خلقه لا يذكر في شيء من القرآن إلا ردا على من اتخذ ذلك الشيء ندا لله تعالى فبين سبحانه أنه خير من ذلك الند ، كقوله تعالى : ( قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون ) وقوله تعالى حاكيا عن السحرة : ( لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى ) وقوله تعالى : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ) فأما أن يفضل نفسه على شيء معين من خلقه ابتداء فهذا لم يقع في كلام الله ولا هو مما يقصد بالإخبار ، لأن قول القائل ابتداء ، الله خير من ابن آدم وخير من السماء وخير من العرش ، من جنس قول : السماء فوق الأرض والثلج بارد والنار حارة ، وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح ، ولهذا لم يجئ هذا اللفظ في القرآن ، ولا في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا مما جرت عادة الناس بمدح الرب تعالى به ، مع تفنن مدحهم ومحامدهم ، بل هو أرك كلام وأسمجه ، وأهجنه ، فكيف يليق بهذا الكلام الذي يأخذ بمجامع القلوب عظمة وجلالة ، ومعانيه أشرف المعاني وأعظمها فائدة أن يكون معناه أن الله أفضل من العرش والسماء ، ومن المثل السائر نظما :

ألم تر أن السيف ينقص قدره     إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

وهذا بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك احتجاجا على مبطل وإبطالا لقول [ ص: 384 ] مشرك ، كما إذا رأيت رجلا يعبد حجرا فقلت له : الله خير أم الحجر ، فيحسن هذا الكلام في هذا المقام ما لا يحسن في قول الخطيب ابتداء : الحمد لله الذي هو خير من الحجارة ، ولهذا قال يوسف الصديق ، عليه السلام ، في احتجاجه على الكفار : ( ياصاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) وقال تعالى : ( آلله خير أم ما يشركون ) يوضحه :

الوجه التاسع والعشرون : أن الرجل إذا تكلم بمثل هذا الكلام في حق المخلوق لكان مستهجنا جدها ، فلو قال : الشمس أضوأ من السراج ، والسماء أكبر من الرغيف وأعلى من سقف الدار ، ونحو ذلك لكان مستهجنا مستقبحا مع قرب النسبة بين المخلوق والمخلوق ، فكيف إذا قيل ذلك بين الخالق تعالى والمخلوق ، مع تفاوت الذي بين الله وخلقه .

الوجه الثلاثون : أن الاستيلاء الذي فسروا به الاستواء ، إما أن يراد به الخلق أو القهر ، أو الغلبة ، أو الملك ، أو القدرة عليه ، ولا يصح أن يكون شيء منها مرادا ، أما الخلق فلأنه يتضمن أن يكون خلقه بعد خلق السماوات والأرض ، وهذا بخلاف إجماع الأمة وخلاف ما دل عليه القرآن والسنة ، وإن ادعى بعض الجهمية المتأخرين أنه خلق بعد خلق السماوات والأرض ، وادعى الإجماع على ذلك ، وليس العجب من جهله ، بل من إقدامه على حكاية الإجماع على ما لم يقله مسلم ، ولا يصح أن يراد بقية المعاني للوجوه التي ذكرناها وغيرها ، فلا يجور تفسير الآية به .

ولهذا لم يقله عالم من علماء السلف بل صرحوا بخلافه ، كما قال أبو العالية : علا وارتفع ، وقال مجاهد : استقر ، وقال مالك : الاستواء معلوم ، وقال يزيد بن هارون : من زعم أن الرحمن فوق العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي ، وقد تقدم حكاية قول من قال : استوى بذاته واستوى حقيقة ، فأوجدوا عمن يقتدى بقوله في تفسير أو عن رجل واحد من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم أو عن إمام له في الأمة لسان صدق أنه فسر اللفظ باستولى ، ولن تجدوا ذلك سبيلا .

الوجه الحادي والثلاثون : إما أن يحيل العقل حمل الاستواء على حقيقته أو لا يحيله ، فإن أحاله العقل ولم يتكلم أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام في تفسيره بخلاف ما يحيله العقل ، بل تفاسيرهم كلها مما يحيلها العقل لزم القدح في [ ص: 385 ] علم الأمة ونسبتها إلى أعظم الجهل لسكوتهم عن بيان الحق وتكلمهم بالباطل ، وهذا شر من قول الرافضة ، وإن لم يحله العقل وجب حمله على حقيقته لأنها الأصل والعقل لا يمنع منها .

الوجه الثاني والثلاثون : أن أئمة السنة متفقون على أن تفسير الاستواء بالاستيلاء إنما هو متلقى عن الجهمية والمعتزلة والخوارج ، وممن حكى ذلك أبو الحسن الأشعري في كتبه ، وحكاه ابن عبد البر والطلمنكي عنهم خاصة ، وهؤلاء ليسوا ممن يحكى أقوالهم في التفسير ولا يعتمد عليها ، كما قال الأشعري في تفسير الجبائي : كان القرآن قد نزل بلغة أهل جباء ، وقد علم أن هؤلاء يحرفون الكلم ويفسرون القرآن بآرائهم ، فلا يجوز العدول عن تفسير الصحابة والتابعين إلى تفسيرهم .

الوجه الثالث والثلاثون : أن الاستيلاء يكون مع مزايلة المستوي للمستولى عليه ومفارقته ، كما يقال : استولى عثمان بن عفان على خراسان ، واستولى عبد الملك بن مروان على بلاد المغرب ، واستولى الجواد على الأمد ، قال الشاعر :


ألا لمثلك أو من أنت سابقه     سبق الجواد إذا استولى على الأمد

فجعله مستوليا عليه بعد مفارقته له وقطع مسافته ، والاستواء لا يكون إلا مع مجاورة الشيء الذي يستوي عليه كما استوت على الجودي ( لتستووا على ظهوره ) ( فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك ) وهكذا في جميع موارده في اللغة التي خوطبنا بها ، ولا يصح أن يقال : استوى على الدابة والسطح إذ نزل عنها وفارقها ، كما يقال : استولى عليها ، هذا عكس اللغة وقلب الحقائق ، وهذا قطعي بحمد الله .

الوجه الرابع والثلاثون : أن نقل معنى الاستواء وحقيقته كنقل لفظه بل أبلغ ، فإن الأمة كلها تعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن ربه بأنه استوى على عرشه ، من يحفظ القران منهم ومن لا يحفظه ، وهذا المعنى عندهم كما قال مالك وأئمة السنة : الاستواء معلوم غير مجهول ، كما أن معنى السمع والبصر والقدرة والحياة والإرادة وسائر ما أخبر به عن نفسه معلوم ، وإن كانت كيفيته غير معلومة للبشر ، فإنهم لم يخاطبوا بالكيفية ولم يرد منهم العلم بها ، فإخراج الاستواء عن حقيقته المعلومة كإنكار ورود لفظه بل أبلغ ، وهذا مما يعلم أنه مناقض لما أخبر الله به ورسوله ، يوضحه :

[ ص: 386 ] الوجه الخامس والثلاثون : أن اللفظ إنما يراد لمعناه ومفهومه فهو المقصود بالذات واللفظ مقصود قصد الوسائل والتعريف بالمراد ، فإذا انتفى المعنى وكانت إرادته محالا لم يبق في ذكر اللفظ فائدة ، بل كان تركه أنفع من الإتيان به ، فإن الإتيان به إنما حصل منه إيهام المحال والتشبيه وأوقع الأمة في اعتقاد الباطل ، ولا ريب أن هذا إذا نسب إلى آحاد الناس كان ذمه أقرب من مدحه فكيف يليق نسبته إلى من كلامه هدى وشفاء وبيان ورحمة ، هذا من أمحل المحال .

التالي السابق


الخدمات العلمية