الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
المثال الثاني : مما ادعوا أنه مجاز اسمه سبحانه ( الرحمن ) وقالوا وصفه بالرحمة مجاز ، قالوا : لأن الرأفة والرحمة هي رقة تعتري القلب ، وهي من الكيفيات النفسية ، والله منزه عنها ، وهذا باطل من وجوه :

أحدها : أنهم جحدوا حقيقة الرحمة فقالوا إن نسبتها إلى الله تعالى محال ، وأنه ليس برحيم بعباده على الحقيقة ، وقد سبقهم إلى هذا النفي مشركو العرب الذين قال الله فيهم ( وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن ) فأنكروا حقيقة اسم الرحمن أن يسمى بذلك ، ولم يكونوا ينكرون ذاته [ ص: 360 ] وربوبيته ، ولا ما يجعله المعطلة معنى اسم الرحمن من الإحسان ، فإن أحدا لم ينكروا إحسان الله إلى خلقه .

فإن قيل : فلو كان هذا كما ذكرتم لأنكروا اسم الرحيم لأن المعنى واحد .

قيل : إنما لم ينكروا الرحيم لأن ورود الرحمن في أسمائه أكثر من ورود الرحيم .

ولهذا قال : ( الرحمن على العرش استوى ) ، ( ثم استوى على العرش الرحمن ) ، ( إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن ) ، ( رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن ) ( الرحمن علم القرآن ) وإنما جاء الرحيم مقيدا كقوله : ( وكان بالمؤمنين رحيما ) وقوله : ( إنه بهم رءوف رحيم ) ، ومقرونا باسم الرحمن كما في الفاتحة ، أو باسم آخر نحو : ( العزيز الرحيم ) وأيضا فالرحمن جاء على بناء فعلان الدال على الصفة الثابتة اللازمة الكاملة كما يشعر به هذا البناء نحو غضبان وندمان وحيران ، فالرحمن من صفته الرحمة ، والرحيم من يرحم بالفعل .

وأيضا فلا يخلو إنكارهم لهذا الاسم إما أن تكون دلالته على حقيقة الرحمة أو لا ، فإن كان الأول فمن أنكر أن يكون حقيقة فقد وافقهم ، وإن لم يكن كذلك فمن المعلوم أن موضوع الاسم وحقيقته صفة الرحمة القائمة بموصوفها ، فلو كانت حقيقة الاسم منتفية في نفس الأمر لكان طعنهم أقوى ، وكان ذلك بمنزلة وصفه بالأكل والشرب والنوم والجور ونحوها مما يليق به وبالجملة فالذي أنكر أن يكون الله رحمانا على الحقيقة هو ( جهم بن صفوان ) وشيعته ، قال الله تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) .

ومن أعظم الإلحاد في أسمائه إنكار حقائقها ومعانيها والتصريح بأنها مجازات وهو أنواع هذا أحدها ، الثاني : جحدها وإنكارها بالكلية ، الثالث : تشبيهه فيها بصفات المخلوقين ومعاني أسمائه ، وأن الثابت له منها مماثل للثابت لخلقه ، وهذا يذكره المتكلمون في كتبهم ويجعلونها مقالة لبعض الناس ، وهذه كتب المقالات بين أظهرنا لا نعلم ذلك مقالة لطائفة من الطوائف البتة ، وإنما المعطلة الجهمية يسمون كل من [ ص: 361 ] أثبت صفات الكمال لله تعالى مشبها وممثلا ، ويجعلون التشبيه لازم قولهم ، ويجعلون لازم المذهب مذهبا ، ويسرعون في الرد عليهم وتكفيرهم .

والمقصود أن هؤلاء المعطلة الملحدين في أسماء الرب تعالى هم المشبهون في الحقيقة ، لا من أثبت ألفاظها وحقائقها من غير تمثيل ولا تشبيه ، ولهذا لا يأتي الرد في القرآن على هذه الفرقة التي انتصب لها هؤلاء ، فإنها فرقة مقدرة في الأذهان ولا موجود لها في الأعيان ، وإنما القرآن مملوء من الرد على من شبه المخلوق بالخالق في صفات الإلهية حتى عبده من دونه ، لأنه هو الواقع من بني آدم يشبهون أوثانهم ومعبودهم بالخالق في الإلهية ، قال تعالى : ( هل تعلم له سميا ) أي من يساميه ويماثله ، وقال تعالى : ( ولم يكن له كفوا أحد ) وقال : ( ليس كمثله شيء ) فنفى عن المخلوق مماثلته ومكافأته ومشابهته ومساماته الذي هو أصل شرك بني آدم فضرب المتكلمون عن ذلك صفحا وأخذوا في المبالغة في الرد على من شبه الله بخلقه ، ولا نعلم فرقة من فرق بني آدم استقلت بهذه النحلة ، وجعلتها مذهبا تذهب إليه حتى ولا المجسمة المحضة الذين حكى أرباب المقالات مذاهبهم كالهاشمية والكرامية الذين قالوا : إن الله جسم لم يقولوا : إنه مماثل للأجسام بل صرحوا بأن معنى كونه جسما أنه قائم بنفسه موصوف بالصفات ، ومثبتو الصفات لا ينازعونهم في المعنى وإن نازعوهم في بعض المواضع .

الوجه الثاني : أن الإلحاد إما أن يكون بإنكار لفظ الاسم أو بإنكار معناه ، فإن كان إنكار لفظه إلحادا فمن ادعى أن الرحمن مجاز لا حقيقة فإنه يجوز إطلاق القول بنفيها فلا يستنكف أن يقول : ليس بالرحمن ولا الرحيم ، كما يصح أن يقال للرجل الشجاع ليس بأسد على الحقيقة .

وإن قالوا : نتأدب في إطلاق هذا النفي فالأدب لا يمنع صحة الإطلاق وإن كان الإلحاد هو إنكار معاني أسمائه وحقائقها فقد أنكرتم معانيها التي تدل عليها بإطلاقها ، وما صرفتموه إليه من المجاز فنقيض معناها أو لازم من لوازم معناها ، وليس هو الحقيقة ، ولهذا يصرح غلاتهم بإنكار معانيها بالكلية ، ويقولون : هي ألفاظ لا معاني لها .

الوجه الثالث : أن هذا الحامل لكم على دعوى المجاز في اسم ( الرحمن ) هو بعينه [ ص: 362 ] موجود في اسم العليم والقدير ، والسميع والبصير ، وسائر الأسماء ، فإن المعقول من العلم صفة عرضية تقوم بالقلب ، إما ضرورية وأما نظرية ، والمعقول من الإرادة حركة النفس الناطقة لجلب ما ينفعها ودفع ما يضرها أو ينفع غيرها أو يضره ، والمعقول من القدرة القوة القائمة بجسم تتأتى به الأفعال الاختيارية فهل تجعلون إطلاق هذه الأسماء والصفات على الله حقيقة أم مجازا ؟ فإن قلتم : حقيقة تناقضتم أقبح التناقض إذ عمدتم إلى صفاته سبحانه فجعلتم بعضها حقيقة وبعضها مجازا مع وجود المحذور فيما جعلتموه حقيقة ، وإن قلتم : لا يستلزم ذلك محذورا فمن أين استلزم اسم الرحمن المحذور ، وإن قلتم الكل مجاز لم تتمكنوا بعد ذلك من إثبات حقيقة الله البتة ، لا في أسمائه ولا في الإخبار عنه بأفعاله وصفاته ، وهذا انسلاخ من العقل والإنسانية .

الوجه الرابع : أن نفاة الصفات يلزمهم نفي الأسماء من جهة أخرى ، فإن العليم والقدير والسميع والبصير ، أسماء تتضمن ثبوت الصفات في اللغة فيمن وصف بها ، فاستعمالها لغير ممن وصف بها استعمال للاسم في غير ما وضع له ، فكما انتفت عنه حقائقها فإنه تنتفي عنه أسماؤها ، فإن الاسم المشتق تابع للمشتق منه في النفي والإثبات ، فإذا انتفت حقيقة الرحمة والعلم والقدرة والسمع والبصر ، انتفت الأسماء المشتقة منها عقلا ولغة ، فيلزم من نفي الحقيقة أن تنفي الصفات والاسم جميعا ، فالمعتزلة لا تقر بأن الأسماء الحقيقية تستلزم الصفات ، ثم ينفون الصفات ، ويثبتون الأسماء بطريق الحقيقة كما قالوا في المتكلم والمريد .

وبعض الجهمية يساعد على أن الاسم يستلزم الصفة ، ثم ينفي الصفة وينفي حقيقة الاسم ويقول : هذا مجاز ، فهو شر من المعتزلة من هذا الوجه ، وهم خير منهم من وجه آخر ، وهو أنه يتناقض فيثبت بعض الصفات وحقائق الأسماء وينفي نظيرها وما يدل عليها من حقيقة الاسم .

وأهل السنة يثبتون الصفات وحقائق الأسماء ، فالأسماء عندهم حقائق وهي متضمنة للصفات .

الوجه الخامس : أنه كيف يكون أظهر الأسماء التي افتتح الله بها كتابه في أم القرآن وهي من أظهر شعار التوحيد ، والكلمة الجارية على ألسنة أهل الإسلام وهي ( بسم الله الرحمن الرحيم ) التي هي مفتاح الطهور والصلاة وجميع الأفعال ، كيف يكون مجازا ؟ هذا من أشنع الأقوال ، فهذان الاسمان اللذان افتتح الله بهما أم القرآن ، [ ص: 363 ] وجعلهما عنوان ما أنزله من الهدى والبيان ، وضمنهما الكلمة التي لا يثبت لها شيطان ، وافتتح بها كتابه نبي الله سليمان ، وكان جبرائيل ينزل بها على النبي صلى الله عليه وسلم عند افتتاح كل سورة من القرآن .

الوجه السادس : قولهم : ( الرحمة رقة القلب ) تريدون رحمة المخلوق ، أم رحمة الخالق ، أم كل ما سمي رحمة ، شاهدا أو غائبا ، فإن قلتم بالأول صدقتم ولم ينفعكم ذلك شيئا ، وإن قلتم بالثاني والثالث كنتم قائلين غير الحق ، فإن الرحمة صفة الرحيم وهي في كل موصوف بحسبه ، فإن كان الموصوف حيوانا له قلب فرحمته من جنسه رقة قائمة بقلبه ، وإن كان ملكا فرحمته تناسب ذاته ، فإذا اتصف أرحم الراحمين بالرحمة حقيقة ، لم يلزم أن تكون رحمته من جنس المخلوق لمخلوق ، وهذا يطرد في سائر الصفات كالعلم والقدرة والسمع والبصر والحياة والإرادة إلزاما وجوابا ، فكيف يكون رحمة أرحم الراحمين مجازا دون السميع العليم ؟ .

الوجه السابع : أن اسم الرحمة استعمل في صفة الخالق وصفة المخلوق ، فإما أن يكون حقيقة في الموصوفين ، أو حقيقة في الخالق مجازا في المخلوق ، أو عكسه ، فإذا كانت حقيقة فيهما ، فإما حقيقة واحدة ، وهو التواطؤ ، أو حقيقتان ، وهو الاشتراك ، ومحال أن تكون مشتركة لأن معناها يفهم عند الإطلاق ويجمعهما معنى واحد ويصح تقسيمها ، وخواص المشترك منفية عنها ، ولأنها لم يشتق لها وضع في حق المخلوق ، ثم استعيرت من المخلوق للخالق ، تعالى الله عما يقول أهل الزيغ والضلال ، فبقي قسمان :

أحدهما : أن تكون حقيقة في الخالق مجازا في المخلوق ، الثاني : أن تكون حقيقة متواطئة أو مشتركة ، وعلى التقديرين فبطل أن يكون إطلاقها على الله سبحانه مجازا .

الوجه الثامن : أنه من أعظم المحال أن تكون رحمة أرحم الراحمين التي وسعت كل شيء مجازا ، ورحمة العبد الضعيفة القاصرة المخلوقة المستعارة من ربه التي هي من آثار رحمته حقيقة ، وهل في قلب الحقائق أكثر من هذا ؟ فالعباد إنما حصلت لهم هذه الصفات التي هي كمال في حقهم ، من آثار صفات الرب تعالى ، فكيف تكون لهم حقيقة ، وله مجاز ، يوضحه :

الوجه التاسع : وهو ما رواه أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يقول الله تعالى : " أنا الرحمن ، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي ، فمن وصلها وصلته ، ومن [ ص: 364 ] قطعها قطعته " فهذا صريح في أن اسم الرحمة مشتق من اسمه الرحمن تعالى ، فدل على أن رحمته لما كانت هي الأصل في المعنى كانت هي الأصل في اللفظ ، ومثل هذا قول حسان رضي الله عنه في النبي صلى الله عليه وسلم :


فشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد



فإذا كانت أسماء الخلق المحمودة مشتقة من أسماء الله الحسنى كانت أسماؤه يقينا سابقة ، فيجب أن تكون حقيقة ، لأنها لو كانت مجازا لكانت الحقيقة سابقة لها ، فإن المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له ، فيكون اللفظ قد سمي به المخلوق ثم نقل إلى الخالق ، وهذا باطل قطعا .

الوجه العاشر : ما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي " وفي لفظ ( غلبت ) وقال تعالى : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) فوصف نفسه سبحانه بالرحمة وتسمى بالرحمن قبل أن يكون بنو آدم ، فادعاء المدعي أن وصفه بالرحمن مجاز من أبطل الباطل .

الوجه الحادي عشر : أن أسماء الرب قديمة لم يستحدثها من جهة خلقه ، بل لم يزل موصوفا بها ، مسمى بها ، والمجاز مسبوق بالحقيقة وضعا واستعمالا ومرتبة ، وذلك كله ممتنع بالنسبة إلى أسماء الله تعالى .

فإن قيل : بعضها مستعار من بعض ، وفيها الحقيقة وفيها المجاز ، ومجازها مستعار من حقائقها ، كالرحمن مستعار من اسم المحسن ، وذلك لا محذور فيه .

قيل : هذا لا يصح ، لأن الحقيقة والمجاز من عوارض الوضع والاستعمال ، وهما معا وأيا ما كان لم تصح دعوى المجاز فيه بوجه من الوجوه .

الوجه الثاني عشر : أنه من المعلوم أن المعنى المستعار يكون في المستعار منه أكمل منه في المستعار له ، وأن المعنى الذي دل عليه اللفظ بالحقيقة أكمل من المعنى [ ص: 365 ] الذي دل عليه بالمجاز ، وإنما يستعار لتكميل المعنى المجازي تشبيهه بالحقيقي كما يستعار الشمس والقمر والبحر للرجل الشجاع والجميل والجواد ، فإذا جعل الرحمن والرحيم والودود وغيرها من أسمائه سبحانه حقيقة في العبد مجازا في الرب لزم أن تكون هذه الصفات في العبد أكمل منها في الرب تعالى .

الوجه الثالث عشر : أن وصفه تعالى بكونه رحمانا رحيما حقيقة أولى من وصفه بالإرادة ، وذلك أن من أسمائه الحسنى الرحمن الرحيم ، وليس في أسمائه الحسنى المريد ، والمتكلمون يقولون مريد لبيان إثبات الصفة ، وإلا فليس ذلك من أسمائه الحسنى ، لأن الإرادة تناول ما يحسن إرادته وما لا يحسن ، فلم يوصف بالاسم المطلق منها ، كما ليس في أسمائه الحسنى الفاعل ولا المتكلم ، وإنما كان فعالا مريدا متكلما بالصدق والعدل ، فليس الوصف بمطلق الكلام ومطلق الإرادة ومطلق الفعل يقتضي مدحا وحمدا حتى يكون ذلك متعلقا بما يحسن تعلقه به ، بخلاف العليم القدير والعدل والمحسن والرحمن الرحيم ، فإن هذه كمالات في أنفسها لا تكون نقصا ولا مستلزمة لنقص البتة .

فإذا قيل : إنه مريد حقيقة وله إرادة حقيقية ، وليس من أسمائه الحسنى المريد ، فلأن يكون رحمانا رحيما حقيقة ، وهو موصوف بالرحمة حقيقة ، ومن أسمائه الرحمن الرحيم أولى وأحرى .

التالي السابق


الخدمات العلمية