أحدها : أنهم جحدوا حقيقة الرحمة فقالوا إن نسبتها إلى الله تعالى محال ، وأنه ليس برحيم بعباده على الحقيقة ، وقد سبقهم إلى هذا النفي مشركو العرب الذين قال الله فيهم ( وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن ) فأنكروا حقيقة اسم الرحمن أن يسمى بذلك ، ولم يكونوا ينكرون ذاته [ ص: 360 ] وربوبيته ، ولا ما يجعله المعطلة معنى اسم الرحمن من الإحسان ، فإن أحدا لم ينكروا إحسان الله إلى خلقه .
فإن قيل : فلو كان هذا كما ذكرتم لأنكروا اسم الرحيم لأن المعنى واحد .
قيل : إنما لم ينكروا الرحيم لأن ورود الرحمن في أسمائه أكثر من ورود الرحيم .
ولهذا قال : ( الرحمن على العرش استوى ) ، ( ثم استوى على العرش الرحمن ) ، ( إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن ) ، ( رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن ) ( الرحمن علم القرآن ) وإنما جاء الرحيم مقيدا كقوله : ( وكان بالمؤمنين رحيما ) وقوله : ( إنه بهم رءوف رحيم ) ، ومقرونا باسم الرحمن كما في الفاتحة ، أو باسم آخر نحو : ( العزيز الرحيم ) وأيضا فالرحمن جاء على بناء فعلان الدال على الصفة الثابتة اللازمة الكاملة كما يشعر به هذا البناء نحو غضبان وندمان وحيران ، فالرحمن من صفته الرحمة ، والرحيم من يرحم بالفعل .
وأيضا فلا يخلو إنكارهم لهذا الاسم إما أن تكون دلالته على حقيقة الرحمة أو لا ، فإن كان الأول فمن أنكر أن يكون حقيقة فقد وافقهم ، وإن لم يكن كذلك فمن المعلوم أن موضوع الاسم وحقيقته صفة الرحمة القائمة بموصوفها ، فلو كانت حقيقة الاسم منتفية في نفس الأمر لكان طعنهم أقوى ، وكان ذلك بمنزلة وصفه بالأكل والشرب والنوم والجور ونحوها مما يليق به وبالجملة فالذي أنكر أن يكون الله رحمانا على الحقيقة هو ( ) وشيعته ، قال الله تعالى : ( جهم بن صفوان ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) .
ومن أعظم الإلحاد في أسمائه إنكار حقائقها ومعانيها والتصريح بأنها مجازات وهو أنواع هذا أحدها ، الثاني : جحدها وإنكارها بالكلية ، الثالث : تشبيهه فيها بصفات المخلوقين ومعاني أسمائه ، وأن الثابت له منها مماثل للثابت لخلقه ، وهذا يذكره المتكلمون في كتبهم ويجعلونها مقالة لبعض الناس ، وهذه كتب المقالات بين أظهرنا لا نعلم ذلك مقالة لطائفة من الطوائف البتة ، وإنما المعطلة الجهمية يسمون كل من [ ص: 361 ] أثبت صفات الكمال لله تعالى مشبها وممثلا ، ويجعلون التشبيه لازم قولهم ، ويجعلون لازم المذهب مذهبا ، ويسرعون في الرد عليهم وتكفيرهم .
والمقصود أن هؤلاء المعطلة الملحدين في أسماء الرب تعالى هم المشبهون في الحقيقة ، لا من أثبت ألفاظها وحقائقها من غير تمثيل ولا تشبيه ، ولهذا لا يأتي الرد في القرآن على هذه الفرقة التي انتصب لها هؤلاء ، فإنها فرقة مقدرة في الأذهان ولا موجود لها في الأعيان ، وإنما القرآن مملوء من الرد على من شبه المخلوق بالخالق في صفات الإلهية حتى عبده من دونه ، لأنه هو الواقع من بني آدم يشبهون أوثانهم ومعبودهم بالخالق في الإلهية ، قال تعالى : ( هل تعلم له سميا ) أي من يساميه ويماثله ، وقال تعالى : ( ولم يكن له كفوا أحد ) وقال : ( ليس كمثله شيء ) فنفى عن المخلوق مماثلته ومكافأته ومشابهته ومساماته الذي هو أصل شرك بني آدم فضرب المتكلمون عن ذلك صفحا وأخذوا في المبالغة في الرد على من شبه الله بخلقه ، ولا نعلم فرقة من فرق بني آدم استقلت بهذه النحلة ، وجعلتها مذهبا تذهب إليه حتى ولا المجسمة المحضة الذين حكى أرباب المقالات مذاهبهم كالهاشمية والكرامية الذين قالوا : إن الله جسم لم يقولوا : إنه مماثل للأجسام بل صرحوا بأن معنى كونه جسما أنه قائم بنفسه موصوف بالصفات ، ومثبتو الصفات لا ينازعونهم في المعنى وإن نازعوهم في بعض المواضع .
الوجه الثاني : أن ، فإن كان إنكار لفظه إلحادا فمن ادعى أن الرحمن مجاز لا حقيقة فإنه يجوز إطلاق القول بنفيها فلا يستنكف أن يقول : ليس بالرحمن ولا الرحيم ، كما يصح أن يقال للرجل الشجاع ليس بأسد على الحقيقة . الإلحاد إما أن يكون بإنكار لفظ الاسم أو بإنكار معناه
وإن قالوا : نتأدب في إطلاق هذا النفي فالأدب لا يمنع صحة الإطلاق وإن كان الإلحاد هو إنكار معاني أسمائه وحقائقها فقد أنكرتم معانيها التي تدل عليها بإطلاقها ، وما صرفتموه إليه من المجاز فنقيض معناها أو لازم من لوازم معناها ، وليس هو الحقيقة ، ولهذا يصرح غلاتهم بإنكار معانيها بالكلية ، ويقولون : هي ألفاظ لا معاني لها .
الوجه الثالث : أن هذا الحامل لكم على دعوى المجاز في اسم ( الرحمن ) هو بعينه [ ص: 362 ] موجود في اسم العليم والقدير ، والسميع والبصير ، وسائر الأسماء ، فإن المعقول من العلم صفة عرضية تقوم بالقلب ، إما ضرورية وأما نظرية ، والمعقول من الإرادة حركة النفس الناطقة لجلب ما ينفعها ودفع ما يضرها أو ينفع غيرها أو يضره ، والمعقول من القدرة القوة القائمة بجسم تتأتى به الأفعال الاختيارية فهل تجعلون إطلاق هذه الأسماء والصفات على الله حقيقة أم مجازا ؟ فإن قلتم : حقيقة تناقضتم أقبح التناقض إذ عمدتم إلى صفاته سبحانه فجعلتم بعضها حقيقة وبعضها مجازا مع وجود المحذور فيما جعلتموه حقيقة ، وإن قلتم : لا يستلزم ذلك محذورا فمن أين استلزم اسم الرحمن المحذور ، وإن قلتم الكل مجاز لم تتمكنوا بعد ذلك من إثبات حقيقة الله البتة ، لا في أسمائه ولا في الإخبار عنه بأفعاله وصفاته ، وهذا انسلاخ من العقل والإنسانية .
الوجه الرابع : أن نفاة الصفات يلزمهم نفي الأسماء من جهة أخرى ، فإن العليم والقدير والسميع والبصير ، أسماء تتضمن ثبوت الصفات في اللغة فيمن وصف بها ، فاستعمالها لغير ممن وصف بها استعمال للاسم في غير ما وضع له ، فكما انتفت عنه حقائقها فإنه تنتفي عنه أسماؤها ، فإن الاسم المشتق تابع للمشتق منه في النفي والإثبات ، فإذا انتفت حقيقة الرحمة والعلم والقدرة والسمع والبصر ، انتفت الأسماء المشتقة منها عقلا ولغة ، فيلزم من نفي الحقيقة أن تنفي الصفات والاسم جميعا ، فالمعتزلة لا تقر بأن الأسماء الحقيقية تستلزم الصفات ، ثم ينفون الصفات ، ويثبتون الأسماء بطريق الحقيقة كما قالوا في المتكلم والمريد .
وبعض الجهمية يساعد على أن الاسم يستلزم الصفة ، ثم ينفي الصفة وينفي حقيقة الاسم ويقول : هذا مجاز ، فهو شر من المعتزلة من هذا الوجه ، وهم خير منهم من وجه آخر ، وهو أنه يتناقض فيثبت بعض الصفات وحقائق الأسماء وينفي نظيرها وما يدل عليها من حقيقة الاسم .
وأهل السنة يثبتون الصفات وحقائق الأسماء ، فالأسماء عندهم حقائق وهي متضمنة للصفات .
الوجه الخامس : أنه كيف يكون أظهر الأسماء التي افتتح الله بها كتابه في أم القرآن وهي من أظهر شعار التوحيد ، والكلمة الجارية على ألسنة أهل الإسلام وهي ( بسم الله الرحمن الرحيم ) التي هي مفتاح الطهور والصلاة وجميع الأفعال ، كيف يكون مجازا ؟ هذا من أشنع الأقوال ، فهذان الاسمان اللذان افتتح الله بهما أم القرآن ، [ ص: 363 ] وجعلهما عنوان ما أنزله من الهدى والبيان ، وضمنهما الكلمة التي لا يثبت لها شيطان ، وافتتح بها كتابه نبي الله سليمان ، وكان جبرائيل ينزل بها على النبي صلى الله عليه وسلم عند افتتاح كل سورة من القرآن .
الوجه السادس : قولهم : ( الرحمة رقة القلب ) تريدون رحمة المخلوق ، أم رحمة الخالق ، أم كل ما سمي رحمة ، شاهدا أو غائبا ، فإن قلتم بالأول صدقتم ولم ينفعكم ذلك شيئا ، وإن قلتم بالثاني والثالث كنتم قائلين غير الحق ، فإن الرحمة صفة الرحيم وهي في كل موصوف بحسبه ، فإن كان الموصوف حيوانا له قلب فرحمته من جنسه رقة قائمة بقلبه ، وإن كان ملكا فرحمته تناسب ذاته ، فإذا اتصف أرحم الراحمين بالرحمة حقيقة ، لم يلزم أن تكون رحمته من جنس المخلوق لمخلوق ، وهذا يطرد في سائر الصفات كالعلم والقدرة والسمع والبصر والحياة والإرادة إلزاما وجوابا ، فكيف يكون رحمة أرحم الراحمين مجازا دون السميع العليم ؟ .
الوجه السابع : أن اسم الرحمة استعمل في صفة الخالق وصفة المخلوق ، فإما أن يكون حقيقة في الموصوفين ، أو حقيقة في الخالق مجازا في المخلوق ، أو عكسه ، فإذا كانت حقيقة فيهما ، فإما حقيقة واحدة ، وهو التواطؤ ، أو حقيقتان ، وهو الاشتراك ، ومحال أن تكون مشتركة لأن معناها يفهم عند الإطلاق ويجمعهما معنى واحد ويصح تقسيمها ، وخواص المشترك منفية عنها ، ولأنها لم يشتق لها وضع في حق المخلوق ، ثم استعيرت من المخلوق للخالق ، تعالى الله عما يقول أهل الزيغ والضلال ، فبقي قسمان :
أحدهما : أن تكون حقيقة في الخالق مجازا في المخلوق ، الثاني : أن تكون حقيقة متواطئة أو مشتركة ، وعلى التقديرين فبطل أن يكون إطلاقها على الله سبحانه مجازا .
الوجه الثامن : أنه من أعظم المحال أن تكون رحمة أرحم الراحمين التي وسعت كل شيء مجازا ، ورحمة العبد الضعيفة القاصرة المخلوقة المستعارة من ربه التي هي من آثار رحمته حقيقة ، وهل في قلب الحقائق أكثر من هذا ؟ فالعباد إنما حصلت لهم هذه الصفات التي هي كمال في حقهم ، من آثار صفات الرب تعالى ، فكيف تكون لهم حقيقة ، وله مجاز ، يوضحه :
الوجه التاسع : وهو ما رواه أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " فهذا صريح في أن اسم الرحمة مشتق من اسمه الرحمن تعالى ، فدل على أن رحمته لما كانت هي الأصل في المعنى كانت هي الأصل في اللفظ ، ومثل هذا قول قال : يقول الله تعالى : " أنا الرحمن ، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي ، فمن وصلها وصلته ، ومن [ ص: 364 ] قطعها قطعته حسان رضي الله عنه في النبي صلى الله عليه وسلم :
فشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
فإذا كانت أسماء الخلق المحمودة مشتقة من أسماء الله الحسنى كانت أسماؤه يقينا سابقة ، فيجب أن تكون حقيقة ، لأنها لو كانت مجازا لكانت الحقيقة سابقة لها ، فإن المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له ، فيكون اللفظ قد سمي به المخلوق ثم نقل إلى الخالق ، وهذا باطل قطعا .
الوجه العاشر : ما في الصحيحين عن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبي هريرة " وفي لفظ ( غلبت ) وقال تعالى : ( " لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي كتب ربكم على نفسه الرحمة ) فوصف نفسه سبحانه بالرحمة وتسمى بالرحمن قبل أن يكون بنو آدم ، فادعاء المدعي أن وصفه بالرحمن مجاز من أبطل الباطل .
الوجه الحادي عشر : أن أسماء الرب قديمة لم يستحدثها من جهة خلقه ، بل لم يزل موصوفا بها ، مسمى بها ، والمجاز مسبوق بالحقيقة وضعا واستعمالا ومرتبة ، وذلك كله ممتنع بالنسبة إلى أسماء الله تعالى .
فإن قيل : بعضها مستعار من بعض ، وفيها الحقيقة وفيها المجاز ، ومجازها مستعار من حقائقها ، كالرحمن مستعار من اسم المحسن ، وذلك لا محذور فيه .
قيل : هذا لا يصح ، لأن الحقيقة والمجاز من عوارض الوضع والاستعمال ، وهما معا وأيا ما كان لم تصح دعوى المجاز فيه بوجه من الوجوه .
الوجه الثاني عشر : أنه من المعلوم أن المعنى المستعار يكون في المستعار منه أكمل منه في المستعار له ، وأن المعنى الذي دل عليه اللفظ بالحقيقة أكمل من المعنى [ ص: 365 ] الذي دل عليه بالمجاز ، وإنما يستعار لتكميل المعنى المجازي تشبيهه بالحقيقي كما يستعار الشمس والقمر والبحر للرجل الشجاع والجميل والجواد ، فإذا جعل الرحمن والرحيم والودود وغيرها من أسمائه سبحانه حقيقة في العبد مجازا في الرب لزم أن تكون هذه الصفات في العبد أكمل منها في الرب تعالى .
الوجه الثالث عشر : أن وصفه تعالى بكونه رحمانا رحيما حقيقة أولى من وصفه بالإرادة ، وذلك أن من أسمائه الحسنى الرحمن الرحيم ، وليس في أسمائه الحسنى المريد ، والمتكلمون يقولون مريد لبيان إثبات الصفة ، وإلا فليس ذلك من أسمائه الحسنى ، لأن الإرادة تناول ما يحسن إرادته وما لا يحسن ، فلم يوصف بالاسم المطلق منها ، كما ليس في أسمائه الحسنى الفاعل ولا المتكلم ، وإنما كان فعالا مريدا متكلما بالصدق والعدل ، فليس الوصف بمطلق الكلام ومطلق الإرادة ومطلق الفعل يقتضي مدحا وحمدا حتى يكون ذلك متعلقا بما يحسن تعلقه به ، بخلاف العليم القدير والعدل والمحسن والرحمن الرحيم ، فإن هذه كمالات في أنفسها لا تكون نقصا ولا مستلزمة لنقص البتة .
فإذا قيل : إنه مريد حقيقة وله إرادة حقيقية ، وليس من أسمائه الحسنى المريد ، فلأن يكون رحمانا رحيما حقيقة ، وهو موصوف بالرحمة حقيقة ، ومن أسمائه الرحمن الرحيم أولى وأحرى .