الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        3227 حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله عنه قال استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال المسلم والذي اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم على العالمين في قسم يقسم به فقال اليهودي والذي اصطفى موسى على العالمين فرفع المسلم عند ذلك يده فلطم اليهودي فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الذي كان من أمره وأمر المسلم فقال لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        الحديث الثاني حديث أبي هريرة أيضا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب ) كذا قال شعيب عن الزهري . وتابعه محمد بن أبي عتيق عن ابن شهاب كما سيأتي في التوحيد . وقال إبراهيم بن سعد " عن الزهري عن أبي سلمة ، والأعرج " كما سيأتي في الرقاق والحديث محفوظ للزهري على الوجهين . وقد جمع المصنف بين الروايتين في التوحيد إشارة إلى ثبوت ذلك عنه على الوجهين ، وله أصل من حديث الأعرج من رواية عبد الله بن الفضل عنه وسيأتي بعد ثلاثة أبواب ، ومن طريق أبي الزناد عنه كما سيأتي في الرقاق ، ومن طريق أبي سلمة عن أبي هريرة أخرجه الترمذي وابن ماجه من طريق محمد بن عمرو عنه ، ورواه - مع أبي هريرة - أبو سعيد وقد تقدم في الإشخاص بتمامه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود ) وقع في رواية عبد الله بن الفضل سبب ذلك ، وأول حديثه " بينما يهودي يعرض سلعة أعطي بها شيئا كرهه فقال : لا والذي اصطفى موسى على البشر " ولم أقف على اسم هذا اليهودي في هذه القصة ، وزعم ابن بشكوال أنه فنحاص بكسر الفاء وسكون النون ومهملتين وعزاه لابن إسحاق ، والذي ذكره ابن إسحاق لفنحاص مع أبي بكر الصديق في لطمه إياه قصة أخرى في نزول قوله تعالى : لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء الآية . وأما كون اللاطم في هذه القصة هو الصديق فهو مصرح به فيما أخرجه سفيان بن عيينة في جامعه وابن أبي الدنيا في " كتاب البعث " من طريقه عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، وابن جدعان عن سعيد بن المسيب قال : " كان بين رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبين رجل من اليهود كلام في شيء " فقال عمرو بن دينار : هو أبو بكر الصديق " فقال اليهودي والذي اصطفى موسى على البشر فلطمه المسلم " الحديث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم اليهودي ) أي عند سماعه قول اليهودي : " والذي اصطفى موسى على العالمين " وإنما صنع ذلك لما فهمه من عموم لفظ العالمين فدخل فيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد تقرر عند المسلم أن محمدا أفضل ، وقد جاء ذلك مبينا في حديث أبي سعيد أن الضارب قال لليهودي حين قال ذلك : أي خبيث على محمد " فدل على أنه لطم اليهودي عقوبة له على كذبه عنده . ووقع في رواية إبراهيم بن سعد " فلطم وجه اليهودي " ووقع عند أحمد من هذا الوجه " فلطم على اليهودي ، وفي رواية عبد الله بن الفضل " فسمعه رجل من الأنصار فلطم وجهه وقال : أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ؟! وكذا وقع في حديث أبي سعيد أن الذي ضربه رجل من الأنصار ، وهذا يعكر على قول عمرو بن دينار أنه أبو بكر الصديق ، إلا إن كان المراد بالأنصار المعنى الأعم فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعا ، بل هو رأس من نصره ومقدمهم وسابقهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأخبره الذي كان من أمر المسلم ) زاد في رواية إبراهيم بن سعد " فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم فسأله عن ذلك فأخبره " وفي رواية ابن الفضل " فقال - أي اليهودي - يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهدا فما بال فلان لطم وجهي فقال : لم لطمت وجهه ؟ - فذكره - فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى رئي في [ ص: 512 ] وجهه " وفي حديث أبي سعيد " فقال : ادعوه لي ، فجاء فقال : أضربته ؟ قال : سمعته بالسوق يحلف ، فذكر القصة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لا تخيروني على موسى ) في رواية ابن الفضل فقال لا تفضلوا بين أنبياء الله وفي حديث أبي سعيد لا تخيروا بين الأنبياء .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق ) في رواية إبراهيم بن سعد فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم ، فأكون أول من يفيق لم يبين في رواية الزهري من الطريقين محل الإفاقة من أي الصعقتين ووقع في رواية عبد الله بن الفضل فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث وفي رواية الكشميهني أول من يبعث " والمراد بالصعق غشي يلحق من سمع صوتا أو رأى شيئا يفزع منه . وهذه الرواية ظاهرة في أن الإفاقة بعد النفخة الثانية ، وأصرح من ذلك رواية الشعبي عن أبي هريرة في تفسير الزمر بلفظ إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة وأما ما وقع في حديث أبي سعيد فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض كذا وقع بهذا اللفظ في كتاب الإشخاص ، ووقع في غيرها فأكون أول من يفيق وقد استشكل ، وجزم المزي فيما نقله عنه ابن القيم في " كتاب الروح " أن هذا اللفظ وهم من راويه وأن الصواب ما وقع في رواية غيره فأكون أول من يفيق ، وأن كونه صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض صحيح ، لكنه في حديث آخر ليس فيه قصة موسى انتهى . ويمكن الجمع بأن النفخة الأولى يعقبها الصعق من جميع الخلق أحيائهم وأمواتهم ، وهو الفزع كما وقع في سورة النمل ففزع من في السماوات ومن في الأرض ثم يعقب ذلك الفزع للموتى زيادة فيما هم فيه وللأحياء موتا ، ثم ينفخ الثانية للبعث فيفيقون أجمعين ، فمن كان مقبورا انشقت عنه الأرض فخرج من قبره ، ومن ليس بمقبور لا يحتاج إلى ذلك . وقد ثبت أن موسى ممن قبر في الحياة الدنيا ، ففي صحيح مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره أخرجه عقب حديث أبي هريرة وأبي سعيد المذكورين ولعله أشار بذلك إلى ما قررته . وقد استشكل كون جميع الخلق يصعقون مع أن الموتى لا إحساس لهم ، فقيل المراد أن الذين يصعقون هم الأحياء ، وأما الموتى فهم في الاستثناء في قوله تعالى : إلا من شاء الله أي إلا من سبق له الموت قبل ذلك فإنه لا يصعق ، وإلى هذا جنح القرطبي . ولا يعارضه ما ورد في هذا الحديث أن موسى ممن استثنى الله لأن الأنبياء أحياء عند الله وإن كانوا في صورة الأموات بالنسبة إلى أهل الدنيا ، وقد ثبت ذلك للشهداء . ولا شك أن الأنبياء أرفع رتبة من الشهداء وورد التصريح بأن الشهداء ممن استثنى الله أخرجه إسحاق بن راهويه وأبو يعلى من طريق زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة . وقال عياض : يحتمل أن يكون المراد صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض ، وتعقبه القرطبي بأنه صرح صلى الله عليه وسلم بأنه حين يخرج من قبره يلقى موسى وهو متعلق بالعرش ، وهذا إنما هو عند نفخة البعث انتهى . ويرده قوله صريحا كما تقدم : إن الناس يصعقون فأصعق معهم إلى آخر ما تقدم ، قال : ويؤيده أنه عبر بقوله : " أفاق " لأنه إنما يقال أفاق من الغشي وبعث من الموت ، وكذا عبر عن صعقة الطور بالإفاقة لأنها لم [ ص: 513 ] تكن موتا بلا شك ، وإذا تقرر ذلك كله ظهر صحة الحمل على أنها غشية تحصل للناس في الموقف . هذا حاصل كلامه وتعقبه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأكون أول من يفيق ) لم تختلف الروايات في الصحيحين في إطلاق الأولية ، ووقع في رواية إبراهيم بن سعد عند أحمد والنسائي فأكون في أول من يفيق أخرجه أحمد عن أبي كامل ، والنسائي من طريق يونس بن محمد كلاهما عن إبراهيم ، فعرف أن إطلاق الأولية في غيرها محمول عليها ، وسببه التردد في موسى عليه السلام كما سيأتي ، وعلى هذا يحمل سائر ما ورد في هذا الباب ، كحديث أنس عند مسلم رفعه " أنا أول من تنشق عنه الأرض " وحديث عبد الله بن سلام عند الطبراني .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فإذا موسى باطش بجانب العرش ) أي آخذ بشيء من العرش بقوة ، والبطش الأخذ بقوة ، وفي رواية ابن الفضل فإذا موسى آخذ بالعرش وفي حديث أبي سعيد آخذ بقائمة من قوائم العرش وكذا في رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله ) أي فلم يكن ممن صعق ، أي فإن كان أفاق قبلي فهي فضيلة ظاهرة وإن كان ممن استثنى الله فلم يصعق فهي فضيلة أيضا . ووقع في حديث أبي سعيد فلا أدري كان فيمن صعق - أي فأفاق قبلي - أم حوسب بصعقته الأولى أي التي صعقها لما سأل الرؤية ، وبين ذلك ابن الفضل في روايته بلفظ أحوسب بصعقته يوم الطور والجمع بينه وبين قوله : أو كان ممن استثنى الله أن في رواية ابن الفضل وحديث أبي سعيد بيان السبب في استثنائه ، وهو أنه حوسب بصعقته يوم الطور فلم يكلف بصعقة أخرى . والمراد بقوله : ممن استثنى الله قوله : إلا من شاء الله وأغرب الداودي الشارح فقال : معنى قوله : استثنى الله أي جعله ثانيا ، كذا قال ، وهو غلط شنيع . وقد وقع في مرسل الحسن في " كتاب البعث لابن أبي الدنيا " في هذا الحديث فلا أدري أكان ممن استثنى الله أن لا تصيبه النفخة أو بعث قبلي وزعم ابن القيم في " كتاب الروح " أن هذه الرواية وهو قوله : أكان ممن استثنى الله وهم من بعض الرواة ، والمحفوظ أو جوزي بصعقة الطور قال : لأن الذين استثنى الله قد ماتوا من صعقة النفخة لا من الصعقة الأخرى ، فظن بعض الرواة أن هذه صعقة النفخة وأن موسى داخل فيمن استثنى الله ، قال : وهذا لا يلتئم على سياق الحديث ، فإن الإفاقة حينئذ هي إفاقة البعث فلا يحسن التردد فيها ، وأما الصعقة العامة فإنها تقع إذا جمعهم الله تعالى لفصل القضاء فيصعق الخلق حينئذ جميعا إلا من شاء الله ، ووقع التردد في موسى عليه السلام . قال : ويدل على ذلك قوله : وأكون أول من يفيق وهذا دال على أنه ممن صعق ، وتردد في موسى هل صعق فأفاق قبله أم لم يصعق ؟ قال : ولو كان المراد الصعقة الأولى للزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جزم بأنه مات ، وتردد في موسى هل مات أم لا ؟ والواقع أن موسى قد كان مات لما تقدم من الأدلة ، فدل على أنها صعقة فزع لا صعقة موت ، والله أعلم . ووقع في رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عند ابن مردويه أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ، فأنفض التراب عن رأسي ، فآتي قائمة العرش فأجد موسى قائما عندها فلا أدري ، أنفض التراب عن رأسه قبلي أو كان ممن استثنى [ ص: 514 ] الله ويحتمل قوله في هذه الرواية أنفض التراب قبلي تجويز المعية في الخروج من القبر أو هي كناية عن الخروج من القبر ، وعلى كل تقدير ففيه فضيلة لموسى كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                        ( تكميل ) :

                                                                                                                                                                                                        زعم ابن حزم أن النفخات يوم القيامة أربع :

                                                                                                                                                                                                        الأولى : نفخة إماتة يموت فيها من بقي حيا في الأرض ،

                                                                                                                                                                                                        والثانية نفخة إحياء يقوم بها كل ميت وينشرون من القبور ويجمعون للحساب ،

                                                                                                                                                                                                        والثالثة نفخة فزع وصعق يفيقون منها كالمغشي عليه لا يموت منها أحد ،

                                                                                                                                                                                                        والرابعة : نفخة إفاقة من ذلك الغشي . وهذا الذي ذكره من كون الثنتين أربعا ليس بواضح بل هما نفختان فقط ، ووقع التغاير في كل واحدة منهما باعتبار من يستمعهما ،

                                                                                                                                                                                                        فالأولى : يموت بها كل من كان حيا ويغشى على من لم يمت ممن استثنى الله ،

                                                                                                                                                                                                        والثانية : يعيش بها من مات ويفيق بها من غشي عليه والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قال العلماء في نهيه صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء : إنما نهى عن ذلك من يقوله برأيه لا من يقوله بدليل أو من يقوله بحيث يؤدي إلى تنقيص المفضول أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع ، أو المراد لا تفضلوا بجميع أنواع الفضائل بحيث لا يترك للمفضول فضيلة ، فالإمام مثلا إذا قلنا إنه أفضل من المؤذن لا يستلزم نقص فضيلة المؤذن بالنسبة إلى الأذان ، وقيل : النهي عن التفضيل إنما هو في حق النبوة نفسها كقوله تعالى : لا نفرق بين أحد من رسله ولم ينه عن تفضيل بعض الذوات على بعض لقوله : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض . وقال الحليمي الأخبار الواردة في النهي عن التخيير إنما هي في مجادلة أهل الكتاب وتفضيل بعض الأنبياء على بعض بالمخايرة ، لأن المخايرة إذا وقعت بين أهل دينين لا يؤمن أن يخرج أحدهما إلى ازدراء بالآخر فيفضي إلى الكفر ، فأما إذا كان التخيير مستندا إلى مقابلة الفضائل لتحصيل الرجحان فلا يدخل في النهي ، وسيأتي مزيد لذلك في قصة يونس إن شاء الله تعالى .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية