الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون ) ; أي لمن جملة المسلمين . وأكذبهم الله بقوله : وما هم منكم . ومعنى يفرقون : يخافون القتل وما يفعل بالمشركين ، فيتظاهرون بالإسلام تقية ، وهم يبطنون النفاق ، أو يخافون إطلاع الله المؤمنين على بواطنهم فيحل بهم ما يحل بالكفار . ولما حقر تعالى شأن المنافقين وأموالهم وأولادهم عاد إلى ذكر مصالحهم وما هم عليه من خبث السريرة فقال : ويحلفون بالله على الجملة لا على التعيين ، وهي عادة الله في ستر أشخاص العصاة .

( لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ) : لما ذكر فرق المنافقين من المؤمنين أخبر بما هم عليه معهم مما يوجبه الفرق ؛ وهو أنهم لو أمكنهم الهروب منهم لهربوا ، ولكن صحبتهم لهم صحبة اضطرار لا اختيار . قال ابن عباس : [ ص: 55 ] الملجأ الحرز . وقال قتادة : الحصن . وقال السدي : المهرب . وقال الأصمعي : المكان الذي يتحصن فيه . وقال ابن كيسان : القوم يأمنون منهم . والمغارات جمع مغارة وهي الغار ، ويجمع على غيران ، بني من غار يغور إذا دخل ، مفعلة للمكان كقولهم : مزرعة . وقيل : المغارة السرب تحت الأرض كنفق اليربوع .

وقرأ سعد بن عبد الرحمن بن عوف : مغارات بضم الميم ، فيكون من أغار . قيل : وتقول العرب : غار الرجل وأغار بمعنى دخل ، فعلى هذا يكون ( مغارات ) من أغار اللازم . ويجوز أن يكون من أغار المنقول بالهمزة من غار ; أي أماكن في الجبال يغيرون فيها أنفسهم . وقال الزجاج : ويصح أن يكون من قولهم : جبل مغار ; أي مفتول . ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم ، فيجيء التأويل على هذا : لو يجدون نصرة أو أمورا مرتبطة مشددة تعصمهم منكم أو مدخلا لولوا إليه . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون من أغار الثعلب إذا أسرع ، بمعنى مهارب ومغار . انتهى . والمدخل قال مجاهد : المعقل يمنعهم من المؤمنين . وقال قتادة : السرب يسيرون فيه على خفاء . وقال الكلبي : نفقا كنفق اليربوع . وقال الحسن : وجها يدخلون فيه على خلاف الرسول . وقيل : قبيلة يدخلون فيها تحميهم من الرسول ومن المؤمنين . وقال الجمهور : مدخلا ، وأصله مدتخل ، مفتعل من ادخل ، وهو بناء تأكيد ومبالغة ، ومعناه السرب والنفق في الأرض ، قاله ابن عباس . بدئ أولا بالأعم وهو الملجأ ; إذ ينطلق على كل ما يلجأ إليه الإنسان ، ثم ثنى بالمغارات وهي الغيران في الجبال ، ثم أتى ثالثا بالمدخل وهو النفق باطن الأرض . وقال الزجاج : المدخل قوم يدخلونهم في جملتهم . وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، ومسلمة بن محارب ، وابن محيصن ، ويعقوب ، وابن كثير بخلاف عنه : مدخلا بفتح الميم من دخل . وقرأ محبوب عن الحسن : مدخلا بضم الميم من أدخل . وروي ذلك عن الأعمش وعيسى بن عمر . وقرأ قتادة ، وعيسى بن عمر ، والأعمش : مدخلا بتشديد الدال والخاء معا ، أصله متدخل ، فأدغمت التاء في الدال . وقرأ أبي مندخلا بالنون من اندخل . قال :


ولا يدي في حميت السكن تندخل



وقال أبو حاتم : قراءة أبي متدخلا بالتاء . وقرأ الأشهب العقيلي : لوالوا إليه أي لتابعوا إليه وسارعوا . وروى ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل عن أبيه عن جده وكانت له صحبة أنه قرأ : لوالوا إليه من الموالاة ، وأنكرها سعيد بن مسلم ، وقال : أظنها لوألوا بمعنى للجئوا . وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي : وهذا مما جاء فيه فاعل وفعل بمعنى واحد ، ومثله ضاعف وضعف . انتهى . وقال الزمخشري : وقرأ أبي بن كعب متدخلا لوالوا إليه لالتجئوا إليه . انتهى . وعن أبي لولوا وجوههم إليه . ولما كان العطف بأو عاد الضمير إليه مفردا على قاعدة النحو في أو ، فاحتمل من حيث الصناعة أن يعود على الملجأ ، أو على المدخل ، فلا يحتمل على أن يعود في الظاهر على المغارات لتذكيره ، وأما بالتأويل فيجوز أن يعود عليها . وهم يجمحون : يسرعون إسراعا لا يردهم شيء . وقرأ أنس بن مالك والأعمش : وهم يجمزون . قيل : يجمحون ، ويجمزون ، ويشتدون واحد . وقال ابن عطية : يجمزون : يهرولون ، ومنه قولهم في حديث الرجم : فلما أذلقته الحجارة جمز .

التالي السابق


الخدمات العلمية