( إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ) لما قطع رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة ، بين أن الأشياء التي يظنونها من باب منافع الدنيا جعلها الله تعالى أسبابا ليعذبهم بها في الدنيا ; أي : ولا يعجبك أيها السامع بمعنى لا يستحسن ولا يفتتن بما أوتوا من [ ص: 54 ] زينة الدنيا كقوله : ( ولا تمدن عينيك ) وفي هذا تحقير لشأن المنافقين . قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وابن قتيبة : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة . انتهى . ويكون إنما يريد الله ليعذبهم بها جملة اعتراض فيها تشديد للكلام وتقوية لانتفاء الإعجاب ; لأن من كان مآل إتيانه المال والولد للتعذيب لا ينبغي أن تستحسن حاله ولا يفتتن بها ، إلا أن تقييد الإيجاب المنهي عنه الذي يكون ناشئا عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنه لا يكون إلا في الحياة الدنيا ، فنفي ذلك كأنه زيادة تأكيد بخلاف التعذيب ، فإنه قد يكون في الدنيا كما يكون في الآخرة ، ومع أن التقديم والتأخير لخصه أصحابنا بالضرورة . وقال الحسن : الوجه في التعذيب أنه بما ألزمهم فيها من أداء الزكاة والنفقة في سبيل الله ، فالضمير في قوله : بها عائد في هذا القول على الأموال فقط . وقال ابن زيد وغيره : التعذيب هو مصائب الدنيا ورزاياها هي لهم عذاب ، إذ لا يؤجرون عليها . انتهى . ويتقوى هذا القول بأن تعذيبهم بإلزام الشريعة أعظم من تعذيبهم بسائر الرزايا ؛ وذلك لاقتران الذلة والغلبة وأمر الشريعة لهم ، قاله ابن عطية ، وقد جمع هذا كله فقال : إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب بأن عرضهم للمغنم والسبي ، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب ، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير وهم كارهون له على رغم أنوفهم ، وأذاقهم أنواع الكلف والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم . وقيل : أموالهم التي ينفقونها فإنها لا تقبل منهم ولا أولادهم المسلمون مثل الزمخشري وغيره ، فإنهم لا ينفعون آباءهم المنافقين ، حكاه عبد الله بن عبد الله بن أبي القشيري . وقيل : يتمكن حب المال من قلوبهم ، والتعب في جمعه ، والوصل في حفظه ، والحسرة على تخلفته عند من لا يحمده ، ثم يقدم على ملك لا يعذره . وقدم الأموال على الأولاد ; لأنها كانت أعلق بقلوبهم ، ونفوسهم أميل إليها ، فإنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية ذهاب أموالهم . قال تعالى : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) .
قال : فإن قلت : إن صح تعليق العذاب بإرادة الله تعالى ، فما بال زهوق أنفسهم وهم كافرون ؟ قلت : المراد الاستدراج بالنعم كقوله تعالى : ( الزمخشري إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) كأنه قيل : ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة . انتهى . وهو بسط كلام ابن عيسى وهو الرماني ، وهما كلاهما معتزليان . قال ابن عيسى : المعنى : إنما يريد الله أن يملي لهم ويستدرجهم ليعذبهم انتهى . وهي نزعة اعتزالية . والذي يظهر من حيث عطف وتزهق على ليعذب أن المعنى ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، ونبه على عذاب الآخرة بعلته وهو زهوق أنفسهم على الكفر ; لأن من مات كافرا عذب في الآخرة لا محالة . والظاهر أن زهوق النفس هنا كناية عن الموت . قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد وتزهق أنفسهم من شدة التعذيب الذي ينالهم .