الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ) [ ص: 112 ] نزلت فيمن تخلف من أهل المدينة عن غزوة تبوك ، وفيمن تخلف ممن حولهم من الأعراب من مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار . ومناسبتها لما قبلها : أنه لما أمر المؤمنين بتقوى الله ، وأمر بكينونتهم مع الصادقين ، وأفضل الصادقين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم المهاجرون والأنصار ، اقتضى ذلك موافقة الرسول وصحبته أنى توجه من الغزوات والمشاهد ، فعوتب العتاب الشديد من تخلف عن الرسول في غزوة ، واقتضى ذلك الأمر لصحبته وبذل النفوس دونه . قال الزمخشري : بأن يصحبوه على البأساء والضراء ، وأمروا أن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط ، وأن يلقوا أنفسهم في الشدائد ما يلقاه نفسه صلى الله عليه وسلم ، علما بأنها أعز نفس عند الله تعالى وأكرمها عليه ، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهون وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له ، ولا يكترث لها أصحابها ، ولا يقيموا لها وزنا ، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه ، فضلا أن يربئوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه ، وهذا نهي بليغ مع تقبيح لأمرهم وتوبيخ لهم عليه ، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية . قال الكرماني : هذا نفي معناه النهي ، وخص هؤلاء بالذكر وكل الناس في ذلك سواء لقربهم منه ، وأنه لا يخفى عليهم خروجه . قال قتادة : كان هذا الإلزام خاصا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وجواب النفر إلى الغزو إذا خرج هو بنفسه ، ولم يبق هذا الحكم مع غيره من الخلفاء . وقال زيد بن أسلم : كان هذا الأمر والإلزام في قلة الإسلام واحتياج إلى اتصال الأيدي ، ثم نسخ عند قوة الإسلام بقوله : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) قال : وهذا كله في الانبعاث إلى غزو العدو على الدخول في الإسلام ، وأما إذا ألم العدو بجهة فيتعين على كل أحد القيام بذبه ومكافحته ، والإشارة بذلك إلى ما تضمنه انتفاء التخلف من وجوب الخروج معه وبذل النفس دونه ، كأنه قيل : ذلك الوجوب للخروج وبذل النفس هو بسبب ما أعد الله لهم من الثواب الجسيم على المشاق التي تنالهم ، وما يتسنى على أيديهم من إيذاء أعداء الإسلام . والظمأ : العطش . وقرأ عبيد بن عمير : ( ظماء ) بالمد ، مثل : سفه سفاها ، ولما كان العطش أشق الأشياء المؤذية للمسافر بكثرة الحركة وإزعاج النفس وخصوصا في شدة الحر كغزوة تبوك بدئ به أولا ، وثنى بالنصب وهو التعب ؛ لأنه الكلال الذي يلحق المسافر والإعياء الناشئ عن العطش والسير ، وأتى ثالثا بالجوع ؛ لأنه حالة يمكن الصبر عليها الأوقات العديدة ، بخلاف العطش والنصب المفضيين إلى الخلود والانقطاع عن السفر . فكان الإخبار بما يعرض للمسافر أولا فثانيا فثالثا . و " موطئا " مفعل من وطئ ، فاحتمل أن يكون مكانا ، واحتمل مصدرا . والفاعل في ( يغيظ ) عائد على المصدر ، إما على " موطئ " إن كان مصدرا ، وإما على ما يفهم من " موطئ " إن كان مكانا ، أي : يغيظ وطؤهم إياه الكفار . وأطلق موطئا إذا كان مكانا ليعم كل موطئ يغيظ وطؤه الكفار ، سواء كان من أمكنة الكفار ، أم من أمكنة المسلمين إذا كان في سلوكه غيظهم . والوطء يدخل فيه بالحوافر والأخفاف والأرجل . وقرأ زيد بن علي : ( يغيظ ) بضم الياء . والنيل مصدر ، فاحتمل أن يبقى على موضوعه ، واحتمل أن يراد به المنيل . وأطلق نيلا ليعم القليل والكثير مما يسوءهم قتلا وأسرا وغنيمة وهزيمة ، وليست الياء في نيل بدلا من واو ، خلافا لزاعم ذلك ، بل نال مادتان : إحداهما من ذوات الواو : نلته أنوله نولا ونوالا من العطية ، ومنه التناول . والأخرى : هذه من ذوات الياء ، نلته ناله نيلا إذا أصابه وأدركه . وبدئ في هاتين الجملتين بالأسبق أيضا وهو الوطء ، ثم ثنى بالنيل من العدو . جاء العموم في ( الكفار ) بالألف واللام ، وفي " من عدو ( لكونه في سياق النفي [ ص: 113 ] وبدئ أولا بما يحض المسافر في الجهاد في نفسه ، ثم ثانيا بما يترتب على تحمل تلك المشاق من غيظ الكفار والنيل من العدو . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة ، لا الوطء بالأقدام والحوافر كقوله عليه السلام : آخر وطأة وطئها الله بوج . والكتب هنا يحتمل أن يكون حقيقة أي : كتب في الصحائف ، أو في اللوح المحفوظ ، ليجازى عليه يوم القيامة . ويحتمل أن يكون استعارة ، عبر عن الثبوت بالكتابة ؛ لأن من أراد أن يثبت شيئا كتبه . والجملة من ( كتب ) في موضع الحال ، وبه أفرد الضمير إجراء له مجرى اسم الإشارة ، كأنه قيل : إلا كتب لهم بذلك عمل صالح ، أي : بإصابة الظمأ والنصب والمخمصة والوطء والنيل . وفي الحديث : من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار . وقال ابن عباس : بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعون ألف حسنة . والنفقة الصغيرة قال ابن عباس : كالتمرة ونحوها ، والكبيرة ما فوقها . وقال الزمخشري : ( صغيرة ) ولو تمرة ، ولو علاقة سوط ، ( ولا كبيرة ) مثل ما أنفق عثمان في جيش العسرة . انتهى . وقدم ( صغيرة ) على سبيل الاهتمام كقوله : ( لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ) ( ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ) وإذا كتب أجر الصغيرة فأحرى أجر الكبيرة . ومفعول ( كتب ) مضمر يعود على المصدر المفهوم من ( ينفقون ) و ( يقطعون ) ، كأنه قيل : كتب لهم هو أي الإنفاق والقطع ، ويجوز أن يعود على قوله : ( عمل صالح ) المتقدم الذكر . وتأخرت هاتان الجملتان وقدمت تلك الجمل السابقة ؛ لأنها أشق على النفس وأنكى في العدو ، وهاتان أهون ؛ لأنهما في الأموال وقطع الأرض إلى العدو ، سواء حصل غيظ الكفار والنيل من العدو أم لم يحصلا ، فهذا أعم وتلك أخص . وكان تعليل تلك آكد ، إذ جاء بالجملة الاسمية المؤكدة بـ " إن " ، وذكر فيه الأجر . ولفظ ( المحسنين ) تنبيها على أنهم حازوا رتب الإحسان التي هي أعلى رتب المؤمنين . وفي هاتين الجملتين أتى بلام العلة وهي متعلقة بـ ( كتب ) ، والتقدير : أحسن جزاء الذي كانوا يعملون ؛ لأن عملهم له جزاء حسن ، وله جزاء أحسن ، وهنا الجزاء أحسن جزاء . وقال أبو عبد الله الرازي : ( أحسن ما كانوا يعملون ) فيه وجهان : الأول : أن أحسن من صفة فعلهم ، وفيها الواجب والمندوب دون المباح . انتهى هذا الوجه . فاحتمل أن يكون ( أحسن ) بدلا من ضمير ( ليجزيهم ) بدل اشتمال ، كأنه قيل : ليجزي الله أحسن أفعالهم بالأحسن من الجزاء ، أو بما شاء من الجزاء . ويحتمل أن يكون ذلك على حذف مضاف ، فيكون التقدير : ليجزيهم جزاء أحسن أفعالهم . والثاني : أن الأحسن صفة للجزاء ، أي : يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل ، وهو الثواب . انتهى هذا الوجه . وإذا كان الأحسن من صفة الجزاء فكيف أضيف إلى الأعمال وليس بعضها منها ؟ وكيف يقع التفضيل إذ ذاك بين الجزاء وبين الأعمال ، ولم يصرح فيه بـ " من " ؟



التالي السابق


الخدمات العلمية