الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) : ذكر ما يقتضي التذكير ؛ وهو كون مرجع الجميع إليه ، وأكد هذا الإخبار بأنه وعد الله الذي لا شك في صدقه ، ثم استأنف الإخبار ، وفيه معنى التعليل بابتداء الخلق وإعادته وأن مقتضى الحكمة بذلك هو جزاء المكلفين على أعمالهم . وانتصب ( وعد الله ) و ( حقا ) على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة ، والتقدير : وعد الله وعدا ، فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى الفاعل ، وذلك كقوله : ( صبغة الله ) و ( صنع الله ) والتقدير : في ( حقا ) حق ذلك حقا . وقيل : انتصب ( حقا ) بـ ( وعد ) ، على تقدير : في أي وعد الله في حق . وقال علي بن سليمان : التقدير : وقت حق ، وأنشد :


أحقا عباد الله أن لست خارجا ولا والجا إلا علي رقيب



وقرأ عبد الله ، وأبو جعفر ، والأعمش ، وسهل بن شعيب : ( أنه يبدأ ) بفتح الهمزة . قال الزمخشري : هو منصوب بالفعل ، أي : وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته ، والمعنى : إعادة الخلق بعد بدئه . وعد الله على لفظ الفعل ، ويجوز أن يكون مرفوعا بما نصب ( حقا ) ، أي : حق حقا بدء الخلق ، كقوله :


أحقا عباد الله أن لست جائيا     ولا ذاهبا إلا علي رقيب



انتهى . وقال ابن عطية : وموضعها النصب على تقدير أحق أنه . وقال الفراء : موضعها رفع على تقدير : لحق أنه . قال ابن عطية : ويجوز عندي أن يكون " أنه " بدلا من قوله : ( وعد الله ) . قال أبو الفتح : إن شئت قدرت : لأنه يبدأ ، فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد ، وإن شئت قدرت : وعد الله حقا أنه يبدأ ، ولا يعمل فيه المصدر الذي هو ( وعد الله ) ، لأنه قد وصف ذلك بتمامه وقطع عمله . وقرأ ابن أبي عبلة : ( حق ) بالرفع ، فهذا ابتداء ، وخبره " أنه " . انتهى . وكون ( حق ) خبر مبتدأ و " أنه " هو المبتدأ - هو الوجه في الإعراب ، كما تقول : صحيح أنك تخرج ؛ لأن اسم " أن " معرفة ، والذي تقدمها في نحو هذا المثال نكرة . والظاهر أن بدء الخلق هو النشأة الأولى ، وإعادته هو البعث من القبور ، و ( ليجزي ) متعلق بـ ( يعيده ) ، أي : ليقع الجزاء على الأعمال . وقيل : البدء من التراب ، ثم يعيده إلى التراب ، ثم يعيده إلى البعث . وقيل : البدء نشأته من الماء ، ثم يعيده من حال إلى حال . وقيل : يبدؤه من العدم ، ثم يعيده إليه ، ثم يوجده . وقيل : يبدؤه في زمرة الأشقياء ، ثم يعيده عند الموت إلى زمرة الأولياء ، وبعكس ذلك . وقرأ طلحة : ( يبدئ ) من ( أبدأ ) رباعيا ، وبدأ وأبدأ بمعنى ، وبالقسط معناه بالعدل ، وهو متعلق بقوله : ( ليجزي ) ، أي : ليثيب المؤمنين بالعدل والإنصاف في جزائهم ، فيوصل كلا إلى جزائه وثوابه على حسب تفاضلهم في الأعمال ، فينصف بينهم ويعدل ، إذ ليسوا كلهم مساوين في مقادير الثواب ، وعلى هذا يكون : بالقسط منه تعالى . قال الزمخشري : أو يقسطهم بما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا الصالحات ، لأن الشرك ظلم ، قال الله تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) والعصاة ظلام لأنفسهم ، وهذا أوجه لمقابلة قوله : ( بما كانوا يكفرون ) . انتهى ، فجعل القسط من فعل الذين آمنوا ، وهو على طريقة الاعتزال ، والظاهر أن ( والذين كفروا ) مبتدأ ، ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله : ( الذين آمنوا ) ، فيكون الجزاء بالعدل قد شمل الفريقين . ولما كان [ ص: 125 ] الحديث مع الكفارة مفتتح السورة معهم ، ذكر شيئا من أنواع عذابهم فقال : ( لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) وتقدم شرح هذا في سورة الأنعام ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون ) : لما ذكر تعالى الدلائل على ربوبيته من إيجاد هذا العالم العلوي والسفلي ، ذكر ما أودع في العالم العلوي من هذين الجوهرين النيرين المشرقين ، فجعل الشمس ضياء ، أي : ذات ضياء أو مضيئة ، أو نفس الضياء مبالغة ، و ( جعل ) يحتمل أن تكون بمعنى صير ، فيكون ( ضياء ) مفعولا ثانيا . ويحتمل أن تكون بمعنى خلق فيكون حالا ، ( والقمر نورا ) ، أي : ذا نور ، أو منورا أو نفس النور مبالغة ، أو هما مصدران . وقيل : يجوز أن يكون ( ضياء ) جمعا ، كحوض وحياض ، وهذا فيه بعد . ولما كانت الشمس أعظم جرما خصت بالضياء لأنه هو الذي له سطوع ولمعان ، وهو أعظم من النور . قال أرباب علم الهيئة : الشمس قدر الأرض مائة مرة وأربعا وستين مرة ، والقمر ليس كذلك ، فخص الأعظم بالأعظم . وقد تقدم الفرق بين الضياء والنور في قوله : ( فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم ) . وقوله تعالى : ( الله نور السماوات والأرض ) يقتضي أن النور أعظم وأبلغ في الشروق ، وإلا فلم عدل إلى الأقل الذي هو النور . فقال ابن عطية : لفظة النور أحكم وأبلغ ، وذلك أنه شبه هداه ولطفه الذي يصيبه لقوم يهتدون ، وآخرين يضلون معه بالنور الذي هو أبدا موجود في الليل وأثناء الظلام . ولو شبهه بالضياء لوجب أن لا يضل أحدا ، إذ كان الهدى يكون كالشمس التي لا تبقى معها ظلمة . فمعنى الآية : أنه تعالى جعل هداه في الكفر كالنور في الظلام ، فيهتدي قوم ويضل قوم آخرون . ولو جعله كالضياء لوجب أن لا يضل أحد ، وبقي الضياء على هذا أبلغ في الشروق كما اقتضت هذه الآية .

وقرأ قنبل : ( ضياء ) هنا ، وفي الأنبياء والقصص بهمزة قبل الألف بدل الياء . ووجهت على أنه من المقلوب جعلت لامه عينا ، فكانت همزة . وتطرفت الواو التي كانت عينا بعد ألف زائدة فانقلبت همزة ، وضعف ذلك بأن القياس الفرار من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما ، فكيف يتخيل إلى تقديم وتأخير يؤدي إلى اجتماعهما ولم يكونا في الأصل ، والظاهر عود الضمير على القمر ، أي : مسيره منازل ، أو قدره ذا منازل ، أو قدر له منازل ، فحذف وأوصل الفعل ، فانتصب بحسب هذه التقادير على الظرف أو الحال أو المفعول كقوله : ( والقمر قدرناه منازل ) وعاد الضمير عليه وحده ؛ لأنه هو المراعى في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريدهما معا بحسب أنهما مصرفان في معرفة عدد السنين والحساب ، لكنه اجتزئ بذكر أحدهما كما قال : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) وكما قال الشاعر :


رماني بأمر كنت منه ووالدي     بريئا ومن أجل الطوي رماني



والمنازل : هي البروج ، وكانت العرب تنسب إليها الأنواء ، وهي ثمانية وعشرون منزلة : الشرطين ، والبطين ، والثريا ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنثرة ، والطرف ، والجبهة ، والدبرة ، والصرفة ، والعواء ، والسماك ، والغفر ، والزبانان ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلع ، وسعد السعود ، وسعد الأخبية ، والفرع المؤخر ، والرشاء وهو الحوت . واللام متعلقة بقوله : ( وقدره منازل ) . قال الأصمعي : سئل أبو عمرو عن الحساب ، أفبنصبه أو بجره ؟ فقال : ومن يدري ما عدد الحساب ؟ انتهى . يريد أن الجر إنما يكون مقتضيا أن الحساب يكون يعلم عدده ، والحساب لا يمكن أن يعلم منتهى عدده ، [ ص: 126 ] والحساب حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي مما ينتفع به في المعاش والإجارات وغير ذلك مما يضطر فيه إلى معرفة التواريخ . وقيل : اكتفى بذكر عدد السنين من عدد الشهور ، وكنى بالحساب عن المعاملات ، والإشارة بذلك إلى مخلوقه . وذلك يشار بها إلى الواحد ، وقد يشار بها إلى الجمع . ومعنى ( بالحق ) متلبسا بالحق الذي هو الحكمة البالغة ، ولم يخلقه عبثا كما جاء ( ربنا ما خلقت هذا باطلا ) ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ) وقال ابن جرير : الحق هنا هو الله تعالى ، والمعنى : ما خلق الله ذلك إلا بالله وحده لا شريك معه . انتهى . وما قاله تركيب قلق ، إذ يصير ما ضرب زيد عمرا إلا بزيد . وقيل : الباء بمعنى اللام ، أي للحق ، وهو إظهار صنعته وبيان قدرته ودلالة على وحدانيته . وقرأ ابن مصرف : ( والحساب ) بفتح الحاء ، ورواه أبو توبة عن العرب . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص : ( يفصل ) بالياء جريا على لفظة الله ، وباقي السبعة بالنون على سبيل الالتفات والإخبار بنون العظمة ، وخص من يعلم بتفصيل الآيات لهم ، لأنهم الذين ينتفعون بتفصيل الآيات ، ويتدبرون بها في الاستدلال والنظر الصحيح . والآيات العلامات الدالة أو آيات القرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية