الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3249 [ 1818 ] وعنه، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة: الذهب أو الورق، فقال: اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرفها سنة، فإن لم تعترف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه. وسأله عن ضالة الإبل فقال: ما لك ولها، دعها. وذكر نحو ما تقدم.

                                                                                              وفي رواية: ثم كلها، فإن جاء صاحبها فأدها إليه.

                                                                                              رواه البخاري (3436) ومسلم (1722) (5 و 7) وأبو داود (1706) والنسائي في الكبرى (5811) وابن ماجه (2507).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و(قوله: ولتكن وديعة عندك ) بعد قوله: ( استنفقها ) معناه: ولتكن في ضمانك على حكم الوديعة; يعني: إذا أنفقها المودع عنده فإنه يضمنها، وإلا: فإذا أنفقها لم تبق عينها، فكيف تبقى وديعة إلا على ما ذكرناه؟ والله تعالى أعلم.

                                                                                              و(قوله: فضالة الغنم ؟) فقال: ( هي لك، أو لأخيك، أو للذئب ) أي: لا بد لها من حال من هذه الأحوال الثلاثة. و(أو) هذه للتقسيم والتنويع. ويفيد هذا: الغنم إذا كانت في موضع يخاف عليها فيه الهلاك جاز لملتقطها أكلها، ولا ضمان عليه; إذ قد سوى بينه وبين الذئب، والذئب لا ضمان عليه، فالملتقط لا ضمان عليه، وهو مذهب مالك وأصحابه، وقد ضمنه الشافعي وأبو حنيفة تمسكا ببقاء ملك ربها عليها، وبما قد روي من حديث عمرو بن يثربي : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن لقيتها لقحة تحمل شفرة وأزنادا فلا تمسها) ولا حجة في شيء من ذلك.

                                                                                              [ ص: 189 ] قد اتفقنا على أن لواجدها أخذها وأكلها. والأصل: أنه لا يجوز التصرف في ملك الغير; فقد تركنا ذلك الأصل، فلا نتمسك به في باب اللقطة; لأن الشرع قد سلط الملتقط عليها، ولما كانت هذه مآلها الهلاك إن تركت ولا ضمان; كان أكلها لواجدها أولى بغير ضمان; لأنه انتفع بها رجل مسلم، ولا حجة أيضا في الحديث لأنه من رواية عمارة بن حارثة وليس بالمشهور الرواية، ولو سلم أنه صحيح فلا حجة فيه أيضا; لأن ذلك القول إنما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جوابا لمن قال له: أرأيت إن لقيت غنم ابن عمي فأخذت شاة فأجزرتها; أعلي في ذلك شيء؟ فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بذلك. فلم يسأله عن ضالة الغنم، بل عن غنم ابن عمه، وذلك عندما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا بطيب نفس منه) فحينئذ سأله عن ذلك، فأجابه بذلك.

                                                                                              ويلحق بالغنم عند مالك : ما لا يبقى من الأطعمة، ويخاف عليه الفساد، وكان بموضع لا ينحفظ فيه، ولا يوجد من يشتريه، فله أكله، ولا ضمان. وضمنه الإمامان، كما قدمناه، فإن كان شيء من ذلك قريبا من العمران، وأمن الهلاك عليه فلا يجوز له أكله، ولا خلاف فيه، فإن شاء أخذها بنية حفظها، وإن شاء تركها على ما تقدم.

                                                                                              و(قوله في ضالة الإبل: ما لك ولها ؟) إلى آخر الكلام، وغضبه حين قال ذلك يدل على تحريم التعرض لضالة الإبل; لأنها يؤمن عليها الهلاك لاستقلالها بمنافعها، وقد نص على ذلك بقوله في الرواية الأخرى: ( دعها عنك ). ومقتضاه: [ ص: 190 ] المنع من التصرف فيها مطلقا، وأن تترك حيث هي. لكن هذا إذا لم تكن بأرض مسبعة، وعلى هذا يدل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ضالة المسلم حرق النار).

                                                                                              قال العلماء: هكذا كان في أول الإسلام، وعلى ذلك استمر زمن أبي بكر ، وعمر ، فلما كان زمن عثمان وعلي ، وكثر فساد الناس، واستحلالهم: رأوا التقاطها، وضمها، والتعريف بها، وهذا كله منهم وفاء بمقصود هذا الحديث في لقطة الإبل; فإن مقصوده: أنها إذا أمن عليها الهلاك، وبقيت بحيث تتمكن مما تعيش به من الأكل والشرب حتى يجيء ربها، فيجدها سليمة، فحينئذ لا يتعرض لها أحد، فلو تعذر شيء من ذلك، وخيف عليها الهلاك أو السرق; التقطت، وحفظت; لأنها مال مسلم; فيجب حفظه، ولا تؤكل، ولو كانت بالمواضع المنقطعة عن العمران البعيدة; لأن سوقها ممكن، ومؤونتها متيسرة بخلاف الغنم.

                                                                                              وهل يلحق بها البقر أو بالغنم؟ عندنا في ذلك قولان. فرأى مالك إلحاقها بالغنم لضعفها عن الامتناع عند انفرادها. ورأى ابن القاسم إلحاقها بالإبل إذا كانت بموضع لا يخاف عليها فيه من السباع.

                                                                                              قلت: وكأن هذا تفصيل أحوال لا اختلاف أقوال، وقد بينا أن مثله جار في الإبل، فالأولى إلحاقها بها.

                                                                                              وكذلك اختلف في التقاط الخيل والبغال والحمير، وظاهر قول ابن القاسم : أنها تلتقط. وقال أشهب وابن كنانة : لا تلتقط.

                                                                                              [ ص: 191 ] و(حذاء الإبل): أخفافها. وأصل الحذاء: ما يحتذي به الإنسان من نعال أو غيره. و(السقاء) ما يشرب به، فيعني: أن الإبل لا تحتاج إلى شيء مما يحتاج إليه غيرها من المواشي، فإنها تمشي حيث شاءت، وتأكل من الأشجار، وترد على الأنهار.




                                                                                              الخدمات العلمية