الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم بين سبحانه في هذه الآية الشرط أو الصفة التي يجب بها إيتاء اليتامى أموالهم كما أمر في آية : وآتوا اليتامى أموالهم قال الأستاذ الإمام ما مثاله : إن ما تقدم من الأمر بإيتاء اليتامى أموالهم كان مجملا ، وفي هذه الآية تفصيل لكيفية الإيتاء ، ووقته ، وما يعتبر فيه . وقد اختلف العلماء في ابتلاء اليتيم : كيف يكون ، فقال بعضهم : يعطى شيئا من المال ليتصرف فيه فيرى تصرفه كيف يكون ؟ فإن أحسن فيه كان راشدا ، وإلا كان سفهه ، وقال بعضهم : إن الإعطاء لا يجوز إلا بعد الابتلاء ، وإيناس الرشد ، فمن أعطاه قبل ذلك يكون مخالفا للأمر ومجازفا بالمال . والصواب : أن يحضره الولي المعاملات المالية ، ويطلعه على كيفية التصرف ، ويسأله عند كل عمل عن رأيه فيه ، فإذا رأى أجوبته سديدة ، ورأيه صالحا يعلم أنه قد رشد .

                          واعترض هذا أيضا بأن القول لا يغني عن الفعل شيئا ، فإن قليلا من النباهة يكفي لإحسان الجواب إن قيل له ما تقول في ثمن هذا ؟ وما أشبه ذلك ، وإننا نرى كثيرا من الذين نسميهم أذكياء ومتعلمين يتكلم أحدهم في الزراعة عن علم يقول : ينبغي كذا من السماد وكذا من السقي والعذق ، فإذا أرسل إلى الأرض ، وكلف العمل ينام معظم النهار ، ولا يعمل شيئا ، أو يعمل فيسيء العمل ، ولا يحسنه ، بل ترى من الناس من يتكلم في الأخلاق وكيفية معاملة الناس فيحسن القول كما ينبغي ولكنه يسيء في المعاملة فيكون عمله مخالفا لقوله ، فقائل هذا القول الثاني قد غفل عن القاعدة التي اتفق عليها العقلاء وهي أن بين العلم والتجربة بونا شاسعا ، فكما رأينا أناسا من المحسنين في الكلام السفهاء في الأعمال الذين إذا سألتهم عن طرق [ ص: 317 ] الاقتصاد في المعاملة ، وتدبير الثروة أجابوك أحسن جواب مبني على قواعد العلم الحديث المبني على التجارب ، وإنعام النظر ، ثم هم يسفهون في عملهم ويبذرون الأموال تبذيرا يسارعون فيه إلى الفقر ، أعرف من هؤلاء رجلا ترك له والده ثروة قدرت قيمتها بمليون جنيه ( أي بألف ألف جنيه ) فأتلفها بإسرافه ، وهو الآن يطلب إعانة من الجمعية الخيرية الإسلامية ! !

                          قال : فالرأي الأول أسد ، وأصوب ، وما اعترض به عليه يجاب عنه بأن الممنوع قبل العلم بالرشد هو إعطاء اليتيم ماله كله ليستقل بالتصرف فيه ، وأما إعطاؤه طائفة منه ليتصرف فيها تحت مراقبة الولي ابتلاء واختيارا له فهو غير ممنوع بل هو المأمور به في هذه الآية .

                          قال : و حتى ابتدائية ، أي ابتلوا اليتامى إلى ابتداء البلوغ ، وكونها ابتدائية لا ينافي كونها للغاية التي هي معناها الأصلي الذي لا يفارقها ، وإنما فرقوا بين التي تدخل على الجملة الكاملة والتي تدخل على المفرد في الإعراب ، فسموا الأولى الابتدائية وهي التي لا تجر المفرد ، وسموا الثانية الجارة وهي التي تجر المفرد . والغاية في الأولى هي مفهوم الجملة التي بعدها ، أي ابتلوهم إلى ابتداء الحد الذي يبلغون فيه سن النكاح ، فإن آنستم منهم بعد البلوغ رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ، وإلا فاستمروا على الابتلاء إلى أن تأنسوا منهم الرشد . وعند أبي حنيفة يعطى ماله إذا بلغ خمسا وعشرين سنة ، وإن لم يرشد ، وجملة فإن آنستم جواب حتى إذا بلغوا .

                          أقول : إن بلوغ النكاح هو الوصول إلى السن التي يكون بها المرء مستعدا للزواج ، وهو بلوغ الحلم ، ففي هذه السن تطالبه بأهم سننها وهي سنة الإنتاج ، والنسل فتتوجه نفسه إلى أن تكون زوجا ، وأبا ورب بيت ورئيس عشيرة ، وذلك لا يتم له إلا بالمال ، فوجب حينئذ إيتاؤه ماله إلا إذا بلغ سفيها ، وخيف أن يضيع ماله فيعجز عما تطالبه به الفطرة ، ولو بعد حين . وفي هذه السن يكلف الأحكام الشرعية من العبادات ، والمعاملات ، وتقام عليه الحدود ويترتب عليه الجزاء الأخروي ، فالرشد حسن التصرف وإصابة الخير فيه الذي هو أثر صحة العقل وجودة الرأي ، وهو يطلق في كل مقام بحسبه ، فقد يراد به أمر الدنيا خاصة ، وقد يراد أمر الدين خاصة ; ولذلك اختلف الفقهاء في الحجر على الفاسق ، فقال بعضهم : يحجر عليه لأنه غير رشيد في دينه ، وقال بعضهم : لا يحجر عليه إذا كان يحسن التصرف في أمور دنياه ، لأن الرشد في هذا المقام لا يعني به إلا أمر الدنيا . وقد يقال إذا كان فسقه مما يتناول الأمور المالية كمنع الحقوق ، وإتلاف المال بالإسراف في الخمور ، والفجور وجب الحجر ، وإن كان يتعلق بأمر الدين خاصة كالفطر في رمضان مثلا فلا يجب الحجر .

                          نقل ابن جرير الخلاف عن مفسري السلف في تفسير الرشد ، كقول مجاهد : هو العقل ، وقول قتادة : هو الصلاح في العقل والدين ، وقول ابن عباس : هو حسن الحال [ ص: 318 ] والصلاح في الأموال . ثم قال : وأولى هذه الأقوال عندي بمعنى الرشد في هذا الموضع : العقل وإصلاح المال ; لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك لم يكن ممن يستحق الحجر عليه في ماله ، وحوز ما في يده عنه - وإن كان فاجرا في دينه - إلى آخر ما قاله في بيان هذا وإيضاحه .

                          وتنكير الرشد يدل على هذا ، فهو لبيان نوع من الرشد ينافي الإسراف في المال ، وقيل المعنى : إن آنستم منهم رشدا ما .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية