الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون جملة ليس لك من الأمر شيء معترضة بين هذا التقسيم ، وما بعدها معطوف على ما قبلها . ولما كانت هذه الآية مما نزل في وقعة أحد كما روي في الصحيح تعين أن تكون التي قبلها كذلك وإلا كانت غير مفهومة إلا بتكلف ينزه القرآن عن مثله على كونه لا حاجة إليه .

                          أما كونها نزلت في شأن وقعة أحد فيدل عليه ما ورد في سبب نزولها . روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد : اللهم العن أبا سفيان ، اللهم العن الحارث بن هشام ، اللهم العن سهيل [ ص: 97 ] ابن عمرو ، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية فتيب عليهم . وروى البخاري عن أبي هريرة نحوهن ، وروى أحمد ومسلم من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كسرت رباعيته يوم أحد وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال : كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم ؟ فأنزل الله : ليس لك من الأمر شيء الآية ، ذكر ذلك كله السيوطي في لباب النقول ولم يعز الأول إلى الترمذي والنسائي اكتفاء بمن هو أصح منهما رواية ، وقد روى ذلك ابن جرير من عدة طرق ، وما روي غير ذلك لا يعتد به . ولا تنافي بين حديث ابن عمرو وحديث أنس لأن الجمع بينهما ظاهر ، وهو أنه قال ما قال فيهم حين أدموه ، ثم لعن رؤساءهم فنزلت الآية عقب ذلك كله .

                          وأما المعنى فقد قال ابن جرير : يعني بذلك - تعالى - ذكره : ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ، ليس لك من الأمر شيء . فقوله : أو يتوب عليهم منصوب عطفا على قوله : أو يكبتهم وقد يحتمل أن يكون تأويله ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم ، فيكون نصب يتوب بمعنى " أو " التي هي في معنى " حتى " والقول الأول أولى بالصواب ; لأنه لا شيء من أمر الخلق إلى أحد سوى خالقهم قبل توبة الكفار ، وعقابهم بعد ذلك . وتأويل ليس لك من الأمر شيء ليس إليك يا محمد من أمر خلقي إلا أن تنفذ فيهم أمري وتنتهي فيهم إلى طاعتي ، وإنما أمرهم إلي والقضاء فيهم بيدي دون غيري . أقضي فيهم وأحكم بالذي أشاء من التوبة على من كفر بي وعصاني وخالف أمري ، أو العذاب إما في عاجل الدنيا بالقتل والنقم المبيرة ، وإما في آجل الآخرة بما أعددت لأهل الكفر بي ، انتهى قول ابن جرير وقد أورد بعده ما عنده من الروايات في الآية .

                          وأقول : لو لم يكن لما جرى في غزوة أحد حكمة إلا نزول هذه الآية لكفى ، فكيف وقد جمع إليها ما سيأتي من الحكم الدينية والاجتماعية والحربية ؟ !

                          كان المؤمنون السابقون إلى الإسلام على ثقة من وعد الله - تعالى - بنصر نبيه وإظهار دينه لم يزلزل إيمانهم بذلك ضعفهم وقلتهم ، ولا إخراج المشركين للمهاجرين من ديارهم وأموالهم ، وكانت وقعة بدر أول تباشير هذا النصر ، فلما رأوا أن الله - تعالى - نصرهم على قلتهم وضعفهم بعد ما كان من دعاء الرسول وتضرعه واستغاثته ربه زادهم ذلك إيمانا [ ص: 98 ] بأنهم هم المنصورون ، ولكن وقع في نفوس الكثيرين - إن لم نقل في نفوس الجميع - أن نصرهم سيكون بالآيات والعناية الخاصة من غير التزام للسنن الإلهية في الاجتماع البشري ، وأن وجود الرسول فيهم ودعاءه على أعدائهم هما أفعل في التنكيل بالكفار من التزام الأسباب الظاهرة التي أهمها طاعة القائد والتزام النظام العسكري وغير ذلك ، ولكن الإسلام دين الفطرة لا الخوارق .

                          كانت عاقبة ذلك أن قصروا في هذه الأسباب يوم أحد حتى ظهر عليهم العدو وجرح الرسول نفسه - وإن لم يقصر هو - ولم ينهزم - صلى الله عليه وسلم - ، كما هي السنة الاجتماعية التي بينها - تعالى - قبل ذلك في سورة الأنفال بقوله : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [ 8 : 25 ] - وإن تبرم الرسول من الكافرين ودعا على رؤسائهم - فكان ذلك فرصة لإعلام المؤمنين بحقيقة من حقائق دين الفطرة ، وهي أن الرسول بشر ليس له من أمر العباد ولا من أمر الكون شيء ، وإنما هو معلم وأسوة حسنة فيما يعلمه ، والأمر كله له كما صرح به في الآية ( 154 ) يدبره بمقتضى سننه كما نص على ذلك في الآية ( 137 ) وكلا الآيتين من هذا السياق .

                          هذا البيان الإلهي في هذه الواقعة يتمكن في النفوس ما لا يتمكن لو لم يكن مقرونا بواقعة مشهورة لا مجال معها لتأويله ولا لتخصيصه أو تقييده ، فهو من أقوى دعائم التوحيد في القرآن ، ودلائل نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤسس ملك ، وزعيم سياسة يديرها بالرأي لما قال مثل هذا القول في مثل هذا الموطن ، فأي نصيب من هذا الدين للذين يجعلون أمر العباد وتدبير شئون الكون لطائفة من أصحاب القبور أو الأحياء الذين يلقبون بالمشايخ والأولياء فيزعمون أنهم ينصرون ويخذلون ، ويسعدون ويشقون ، ويميتون ويحيون ، ويغنون ويفقرون ، ويمرضون ويشفون ، ويفعلون كل ما يشاءون ؟ هل يعد هؤلاء من أهل الإسلام وأتباع القرآن الذي يخاطب خاتم النبيين والمرسلين - حين لعن رؤساء المشركين الذين حاربوه حتى خضبوا بالدم محياه وكسروا إحدى ثناياه - بقوله : ليس لك من الأمر شيء وقوله : قل إن الأمر كله لله ؟ هذا تعليم القرآن الحكيم وهذا هديه القويم ، فهل كان أهل بخارى مهتدين به عندما كانوا يقولون وقد علموا بعزم روسيا على الاستيلاء على بلادهم : إن " شاه نقشبند " هو حامي هذه البلاد فلن يستطيعها أحد ؟ هل كان أهل فاس مهتدين به عندما لجئوا إلى قبر وليهم " إدريس " [ ص: 99 ] يستغيثونه ويستفتحون به على الفرنسيس ؟ هل كان المسلمون على شيء من هدى هذا الدين عندما كانوا يستنصرون بقراءة البخاري أو يستغيثون بالأولياء في بلاد كثيرة ؟ أيزعمون أن تلك النزغات الوثنية تعد من الدعاء المشروع ؟ ألم يعتبروا بهذه الآية وما رواه أهل الصحيح في سببها وهو دعاء النبي على رؤساء المشركين حين فعلوا ما فعلوا ؟ ألم يتعلموا من ذلك أن الاستعداد بالفعل مقدم على الدعاء بالقول ؟ ألم يروا أن سلفهم كانوا ينصرون أيام لم يكونوا دائما يقولون : " اللهم نكس أعلامهم ، اللهم زلزل أقدامهم ، اللهم يتم أطفالهم ، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين " وأنهم بعد اللهج بهذه الكلمات غير منصورين في جهة من الجهات ؟ فالعمل العمل ، الاستعداد الاستعداد ، الأهبة الأهبة وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة [ 8 : 60 ] ولا قوة إلا بالعلم والمال ، ولا مال إلا بالعدل ، ولا عدل مع حكم الاستبداد ، ثم بعد كمال الاستعداد يكون الذكر والاستمداد ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا [ 8 : 45 ، 46 ] هذا هدى الإسلام وقد تمثل لهم صدقه في النبي وصالحي المؤمنين ، أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين [ 23 : 68 ] ؟

                          ثم أكد - تعالى - هذه الحقيقة وأيدها بقوله : ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم فمن كان له ملك السماوات والأرض كان حقيقا بأن يكون له الأمر كله في السماوات والأرض ، ولا يمكن أن يكون لأحد من أهلهما شركة معه ولا رأي ولا وساطة تأثير في تدبيرهما وإن كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا إلا من سخره - تعالى - للقيام بشيء فإنه يكون خاضعا لذلك التسخير لا يستطيع الخروج فيه عن السنن العامة التي قام بها نظام الكون ونظام الاجتماع ، وفي ذلك تأديب من الله - تعالى - لرسوله وإعلام بأن ذلك اللعن والدعاء على المشركين مما لم يكن ينبغي له ; ولذلك قال ابن جرير في تفسير الآية : " يعني بذلك - تعالى ذكره - ليس لك يا محمد من الأمر شيء ولله جميع ما بين أقطار السماوات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها ، دونك ودونهم يحكم فيهم بما شاء ، ويقضي فيهم ما أحب ، فيتوب على من أحب من خلقه العاصين أمره ونهيه ثم يغفر له ، ويعاقب من شاء منهم على جرمه فينتقم منه غفور الغفور : الذي يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه من خلقه بفضله عليهم بالعفو والصفح و رحيم بهم في تركه عقوبتهم - عاجلا - على عظيم ما يأتون من المآثم اهـ . ولا تنس أن مشيئته المغفرة أو التعذيب جارية على سنن حكيمة مطردة كما تقدم غير مرة - راجع ص 223 من الجزء الثالث [ طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب ] .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية