الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المطلب الثاني

        علم المقاصد وفقه الواقع والمحل

        ودوره في نجاح الداعية

        - رؤية فكرية وتدبرية من الداخل:

        نتساءل في بداية هذا المطلب المهم، وبعد أن تبينا في المطلب الأول أدوات وعدة وثقافة الداعية الضرورية لنجاح عمله الدعوي، وكأننا نحن الدعاة -أنفسنا- المعنيين والمكلفين بإعداد وصياغة الخطاب الدعوي الموجه لجمهور المدعوين حول إحدى الشعائر التعبدية، وهي عبادة الصيام، ولسـنا المنظرين والموجهين للقائمين على إعداد وعرض المسـألة الدعويـة لجمهور المدعوين، وما هو الواجب تقريره واستصحابه من قبل الداعية الناجح أثناء عمليات الفهم والإعداد ثم الاتصال والتوجه، ومكان وأثر علمي المقاصد وفقه الواقع ومحل التنزيل في تفاصيل تلك المسألة وأركان العملية الدعوية برمتها.

        كما نتساءل قائلين أيضا، وكأننا نحن الدعاة: هل لعلم المقاصد من أثر ودور في نجاح عمل الداعية؟ وهل له من تأثير في جذب وتحريك وإثارة جمهور المدعوين؟ وهل يحق لنا أن نطرح بعض التساؤلات المقاصدية حول فقه ومقاصد هذه العبادة السنوية المتميزة؟

        [ ص: 128 ] وهل يحق لنا اعتبار أن العبادة هي المنطلق والوسيلة السوية والصحيحة والوحيدة القادرة على بناء وترميم الشخصية المدنية والحضارية والثقافية للإنسان والجماعة والمجتمع والكيان المسلم مصداقا لحكمة سيدنا عمر رضي الله عنه : "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، وإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله" [1] ؟

        وهنا أنطلق وكأنني أنا الداعية المسؤول عن إعداد متن الخطاب الدعوي وتوجيهه لجمهور المدعوين فأقول: بعد كل هذه الطروحات، التي رصفتها رصف وعي واستبصار حول كنه وحقيقة ومكانة العبادة كقيمة مركزية في الإسلام، ومدى فاعليتها وقوتها الإيجابية وتأثيراتها التربوية والتعليمية والنفسية والروحية والأخلاقية والقيمية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والصـحية في صناعة وصياغة الجماعة والنفس البشـرية السـوية والواقع الإسلامي السوي والمثالي، وهو عين وعي الداعية الناجح بكنه متونه وخطاباته وتواصلاته المتشعبة.

        وأعتبر نفسي كداعية مسؤولا ومكلفا هنا بأن أمارس حقي الطبيعي والشرعي في التساؤل والتثاقف مع الآخر، والتساؤل أيضا مع وبين واتجاه وصوب دخائل الذات الواعية الراشدة، كما مارسه أبو الأنبياء خليل الرحمن [ ص: 129 ] إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، حين خاطب ربه لمحاولة وضع خط الاستبصار وطرح السؤال والتساؤل المعرفي والمنهجي الواعي، بهدف معرفة مقاصد وأبعاد وغايات الكثير من المسائل، التي شرع الله بابها ولم يوصده وجعله مشرعا لمن امتلك أدواته العلمية والمعرفية والمنهجية والروحية والأخلاقية.. في تلك التجربة المعرفية والمنهجية الواردة في قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم (البقرة:260).

        ونحن إذ نجاول ونحاول بهذه الطريقة السننية القرآنية السؤال والتسـاؤل مع الآخر والذات، فإنما نرتع بهذه المراوحة العقلية لنمارس ونحيي سـنة قرآنية لا غير، لا يملك أحد حق منعنا من ممارستها، بل ندعوه هو لتجريبها ولو مرة واحدة في حياته، ليعيش مع إرشادات وتعاليم القرآن الكريم، ويستمتع بنعمة من نعم الله، التي لا تحصى عليه.

        ومنها هذه المجاولة والمحاولة التساؤلية المقاصدية، التي يجب أن يحييها الداعية في نفسه وفي مدعويه، ومفادها الآتي:

        هل يتوقف الأمر الديني والتبليغي للداعية على تعليم جماهير المسلمين فقه عباداتهم وأدلتها ومسائلها وسننها وآدابها ومستحباتها ونواقضها الظاهرية فقط؟ أم أنه موكول بتعليمهم وتفقيههم مقاصدها وأبعادها الكلية المنوطة بهم كمحل للتنزيل؟

        [ ص: 130 ] ونحن نعلم جميعا أن فطرة الله، التي فطر الناس عليها يوم فطرهم وخلقهم وبراهم، إنما أوجدهم وصممهم سبحانه وتعالى في الأصل الأول على ملة التوحيد وعلى عبادات الإسلام.. والرؤية المقاصدية تحتم علينا التسليم بالقول: إن حفظ وسلامة العقل رهينة بسلام وحفظ الدين والذي على إثره يترتب حفظ وسلامة النفس والنسل والمال.. فلا سلامة ولا حفظ لهذه الثلاثة الأخيرة (النفس، النسل، المال) ، إلا بسلامة وحفظ العقل، الذي تضمن سلامته وحفظه شرائع وقيم ومبادئ الدين.

        فهي كما ترى حلقات مترابطة ببعضها ترابط بناء واقتضاء ووجود وحتم، وأي خلل يصيب أسها الأول (الدين) يقتضي تداعيها وتفككها وانحرافها وضلالها. ونحن نؤمن أيضا أن تعلم فقه العبادات لا يضمن لنا تأدية العبادة على وجهها الصحيح والسليم فقط، بل يجب أن يضمن لنا السير السوي نحو العلم والوعي بجوهر هذه العبادة المركزية، نحو إعادة الروح والفاعلية والقوة الإيجابية لهذه العبادات اليومية والأسبوعية والشهرية والسنوية والعمرية، وينهض بتأثيراتها الفردية والجمعية والاجتماعية المختلفة، ويخرج هذه العبادات من طقوسها الفارغة والجوفاء، التي آل إليها أمر المسلمين المستضعفين في الأرض.

        فعلي سبيل المثال، ففي شهر رمضان ترتفع نسبة الشجار والصدام والنزاعات والعنف الاجتماعي، على عكس المقصد الرئيس من هذه العبادة، التي هي حماية ووجاء، لقوله، عليه الصلاة والسلام، لذاك الشاب: "...فعليه [ ص: 131 ] بالصوم، فإنه له وجاء" [2] ؛ لأن جوهر وكنه العبادات صلة وصل حقيقية بالله القـوي الواحد القهار، ومدد ربـاني زاخر للمتعبـدين الحقيقيين.. أما المرغـمين أو المدفوعين بحكم العادة أو التعود أو خشية الرقيب الاجتماعي أو الرادع القانوني أو نحوه فهم يؤدون مجرد طقوس مفرغة من محتواها وبعدها المقاصـدي، فلا اسـتجابة مطلوبة ولا أثر يرجى في ارتقاء الأمة من ممارسة هذه العبادات.

        وهنا وجب على الداعية أن يجاول الحديث النفسي في أعماق ذاته قائلا بصمت: لن نستطيع كمسلمين - عالم إسلامي متخلف- أن نرجع إلى سابق عطائنا وتفوقنا وريادتنا الحضارية العالمية، إلا بالعودة الواعية والعميقة لفقه ومقاصد وغايات العبادات، ووفق المقاصد الكلية الكبرى، التي قعدها الله لعباده وهم يمارسون تلك العبادات، ممارسة وعي واستلهام واستمداد طاقوي رباني لا يعرفه إلا من عاينه وعاناه وكابده إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون (النساء:104) ؛ لأن العقائد والعبادات وجهان لعملة واحدة، وما العبادات إلا الترجمة والوجه الحقيقي والوحيد الـمعبر عن كلمة التوحيد.

        [ ص: 132 ] مستمرا في تحليل الموقف التاريخي لحاجة الإنسان الماسة لممارسة العبادة، منداحا نحو القراءة التاريخية لنشوء ونمو المدنيات - الحضارات القديمة- ليراها وعلى الرغم من الإعراض عن رسالات ربها ودعوات أنبيائها وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (فاطر:24) ، قد نشأت ونمت وحكمت وامتدت في ظل المعابد والكهان والعبادة الطوطمية والأوثان والطقوس والقرابين والتضحية والفداء.. فما بالنا بأمة ومدنية وحضارة تملك دينا تنزل من لدن رب العزة، وهو الإسلام، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؟

        فلو أعطينا العبادات حقها ووعيناها حق مقصدها لأكلنا من تحتنا ومن بيننا ومن فوقنا، ولرأينا آثارها فينا وفي مجتمعنا وعمراننا ومكاننا بين الأمم المتغلبة اقتصاديا وإنتاجيا، ضاربا مثالا عن أهمية فقه علم المقاصد في العبادات للداعية وللقائم بعملية الاتصال الدعوي ودوره في نجاح عمله الدعوي، وليكن أنموذجه هو: عبادة الصيام السنوية.

        - أولا: البيان المقاصدي لعبادة الصيام:

        وينداح ويسـترسـل الداعية عبر دخائله النفسـية والفكرية والمنهجية مـؤكـدا أن عبادة الصيام في حقيقتها هي: توقف مفاجئ وقطعي وحتمي عن كل ما اعتاده الفرد، ماديا وجسديا وروحيا ومعنويا وتواصليا، طيلة شهر رمضان من كل سنة.. فمقابل كل أحد عشر (11) يوم فطر يقابله يوم واحد صيام، وكل ثلاثمائة وستة وثلاثين (336) يوم فطر يقابله (30) يوما صياما.. ولكن التعريف الفقهي العام الصيام هو: فريضة على كل مسلم بالغ عاقل، [ ص: 133 ] وهو بالمعنى المخصوص: الامتناع عن الأكل والشرب والجماع أو القيام بأي شيء يفسد الصيام (كالتقيء العمدي والفصد ونحوها...) بنية مخصوصة من أذان الفجر إلى أذان المغرب.. فضلا عن سننه وآدابه الروحية والوجدانية والمعنوية والأدبية.

        فهو بهذا البيان الجامع عبادة مقصدية كبرى، الهدف منها حفظ الدين، وبحفظ المسـلم وإتيانه لهذه العبادة على وجهها الأكمل والصحيح ماديا ومعنويا وروحيا، يقصد بذلك إصلاح وحفظ النفس والعقل والنسل والمال، وهو ما يعني فقها حقيقيا للواقع، ومن ثمة حصول نهضة حقيقية بمكونات الواقع المدادية والمعنوية والأدبية والقيمية.

        وبقراءة مقاصدية وواقعية وفقهية لمحل التنزيل، فإن المسلم الصائم عندما يلتزم بقواعد وأسس وشروط وكيفيات هذه العبادة كما نزلت في القرآن الكريم وكما بينتها ووضحتها وفصلتها السنة النبوية المطهرة وفق مذهب السلف الصالح من الأمة إلى اليوم، فهو يقوم بعملية التزام وضبط جسدي ومادي وروحي وعقلي ونفسي شامل لعقله (التفكر في مقصد ومعنى هذه العبادة) ، وقلبه (النية المعقودة في القلب) ، وجسده (الامتناع عن المباحات لوقت مخصوص) ، وعلى المستوى الفردي الذي لا بد أن ينعكس على المستوى الجمعي والاجتماعي (الإحساس بالفقر والجوع والحرمان والحاجة، والدعوة للبذل والعطاء).

        وعليه، فقد رفع الإسلام من قسمة وأسهم وسندات بورصة الأعمال الصالحة في مواسم السوق الرمضاني الفضيل دون سائر الأشهر والأيام [ ص: 134 ] والمناسبات، فالصدقة والزكاة وتفطير الصائم ونحوها من الأعمال، لها ميزانها الثقيل في رمضان، وكذلك عبادة الصلاة وقراءة القرآن وقيام الليل والاعتكاف.. وعمرة رمضان تعدل حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.. وهكذا يزداد رصيد الأعمال في مزاد رمضان دون سائر الشهور الأخرى.. وهكذا دواليك في سائر آثار وتأثيرات عمليات التواصل الاجتماعي السوي أو المنحرف "وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم" [3] فلا يبادله الإساءة والعنف.

        وبقراءة مقاصدية وواقعية وفقهية لمحل التنزيل، فإنه بصلاح الدين وصفاء مشربه وطيب نبعه المأخوذ عن السلف والخلف الصالح من علماء وفقهاء وأخيار ودعاة الأمة، يصلح دين المرء، وهو المقصد الأول، فإذا سلم وصح واستقام المقصد الأول، حتما سيصح وسيسلم المقصد الشرعي الثاني وهو العقل، فيصير المسلم ذا عقيدة سنية سوية، فهو يبرأ من كل انحراف أو زيغ في العقيدة، ويرى أن الإيمان اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان، وهو يزيد وينقص، فيبرأ من عقيدة الإرجاء، ويرى أن الله هو مقدر الأمور ومسـيرها، فيبرأ من عقيدة القدرية، ويتبع إماما من الأئـمة الأخيـار (أبو حنيفة، مالك، الشافعي، أحمد) والمشهورين بالصلاح من أئمة الهدى عبر التاريخ الإسلامي في الأصول والفروع فيبرأ من كل ضلال أو انحراف.

        [ ص: 135 ] وإذا صلح العقل صلحت معه وبعده النفس، واطمأنت وسكنت وهبت للرقي والتنمية والعمل والجد والنهضة بنفسها وأسرتها وجماعتها ومجتمعها ودولتها وكيانها، والذب والدفاع عنها في شـتى الميادين والمجالات المختـلفة، وإذا صلحت النفس صار تعاملها مع المال تعاملا شرعيا سـليما، فيكفي توجيه الأثر لها عبر هذه القاعـدة في المال لتكون منهجها في التعامل المالي من غير كنز ولا كن ولا بخل ولا إسـراف ولا تقطـير: "ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبسـت فـأبليـت، أو أعـطيـت فأمضـيت".. ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ، ولا تبسطها كل البسط ، وغيرها.. من القواعد، التي تحفظ المال.

        وبصلاح النفس دينيا وعقليا وماليا ستصلح اجتماعيا (النسل والعقب) ، وستنجب عقبا موحدا في الأرض، ذرية صالحة بعضها من بعض.. وهذا هو علم المقاصد وعلم فقه الواقع الحقيقي إن أحسن الداعية فقهه من جهة، واستثماره أثناء إعداد خطته الدعوية لجمهور المدعوين من جهة أخرى.

        - ثانيا: الصيام بين الرؤية المقاصدية والواقعية:

        وهنا يجب أن يعلم ويوقن الداعية أن: العبادة التي نؤديها كل يوم وأسبوع وشهر وسنة وفي العمر ليست خدمة نسديها أو هدايا نقدمها لله تعالى، فهو غني عن عبادة العالمين، وهم لا يمثلون عنده سوى نزرا يسيرا: "يا عبـادي، [ ص: 136 ] لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم..." [4] ، كما يتقدم الكهان وسدنة المعابد بالقرابين الحسية بين يدي الأوثان زلفى لله، بل العبادة أيها الصائمون مشـروع متكامل ومدروس وخطة اسـتراتيجية شاملة، ومنهج مقصدي للارتـقاء بالنفس لكي تبلغ درجات الكمال وترى ربها راضيا عنها في الدنيا ويوم القيامة.

        وعندما قربت لنا السنة النبوية فضل التبكير لصلاة الجمعة بالهدايا: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة..." [5] ، فذلك من باب قاعدة المبادلة [ ص: 137 ] الغريزية المذخورة في جبلة الإنسان يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله ... (الصف:10-11).

        والقراءة المقاصدية لعبادة الصيام السامية، تدفعنا لمحاولة تعليل ما أدرجه الأصوليون في خانة اللامعقول من وعن التعليل، فندرك ما عجزوا عنه - بحول الله في ظل الكشوفات العلمية الفائقة في علم النبات والحيوان والبحار والمادة والجماد والفلك والنفس والاجتماع والطب والبيئة والطباع والاقتصاد والمال والتجارة والصناعة والتكنولوجية والذرة والهندسة الوراثية والكومبيوتر والاتصالات البرقية ومحركات البحث- عندما وضعوه في تلك الخانة غير القابلة للتعليل كعدد الصلوات والركعات وشعائر الحج... وغيرها.

        وعلى الداعية أن يتهم نفسه بعد كل هذه المحاولات والمجاولات الفكرية والمنهجية والتدبرية فيقول بينه وبين نفسه أثناء عماية الإعداد: إن فهمي القاصر - والله أعلم- لمصطلح الأصوليين الشهير في تقسيمهم الأحكام من حيث التعليل: إلى معقولة المعنى، وأخرى غير معقولة المعنى، أي: (غير قابل للتعليل في مجال العبادات) ، أو قول الفقهاء: "هذا تعبدي لا تعرف حكمته ومقصده" عقبة منهجية مبهمة أغلقت طريق العقل وأخمدت شعلة توقده ونشاطه، وأثنت عزيمته عن البحث في استنباط المعاني والمقاصد المبثوثة في خبايا وخفايا العبادات، والمقصود منها غلق ما ترك مشرعا ومفتوحا لإدراك وفهم بعض ما يريح النفس من إدراك بعض أسرار وخفايا وأعماق وجوهر [ ص: 138 ] العبادات، التي يمارسها الفرد المسلم بسائر قواه الحية: (عقله وروحه وجسده) ؛ لأن كل حركة وسكنة وكلمة في العبادات محكومة بمقاصد ربانية عظيمة، ومعللة بركام من الحكم المقصودة بعينها والتي يمكن للعقل الرشـيد اكتشافها، أو السعي الحثيث لمحاولة ومجاولة اكتشافها.. فالطبيعة البشرية تكون أسعد وأنشط وأوعى عندما تعرف أسرار ما تقوم به من عبادات وغيرها، على العكس منها عندما تجهل الكثير من المقاصد والأسرار حتى ولو في مجال العبادات التوقيفية.

        وعليه أن يطرح السؤال الآتي على نفسه وهو يعد الخطاب قائلا: هل حققنا مقاصد العبادات، التي شرعها الله لنا؟

        وعليه أن يجيب عنها بكثير من القراءة الواقعية الأفقية والعمودية قائلا: إن العبادات (صلوات، صيام، حج، زكاة) التي يؤديها مليار ونصف من المسلمين في العالم، لم تسـتطع أن تغيرهم نحو الأفضل، حضاريا وثقافيا واقتداريا وتمكنيا، أو أن تنقلهم من ذيل ومؤخرة العالم وتجعلهم في رأس الأمم، كأن يصطفوا صفا طويلا ومرتبا لممارسـة سنة فقط كتقبيل الحجر الأسود، فيتصارعون دونه حتى تسـيل الدماء من بعضـهم ويجرح بعضهم ونحو ذلك مما شاهدنا.. وكان بإمكانهم أن يفعلوا ما يفعله مليار ونصـف المليار صيني - الذين جهلوا ربهم، وقصرنا عن دعوتهم- حين يرتصـفون بالتناوب طوابير لا نهاية لها من أجل إشباع شهوة غريزية فقط كركوب القطارات والحافلات والذهاب للعمل، واحترام الآخر والنظام الذي به [ ص: 139 ] تستمر الحياة!!

        حتما سنعرف الإجابة بشكل برقي، وسنكتشف بسرعة مذهلة كيف تحولت وصارت عباداتنا مجرد طقوس مفرغة لا أثر ولا تأثير يرجى منها، لأن الأفكار تنبني وتتأسس على التصورات والعقائد والعبادات، فإذا كانت قيمنـا ومقدسـاتـنا مشـوهة فمن الطبيعي والمنطقي أن تنعكس على الإنسـان والجماعة والعمران والكيان والضمائر والأوطان المدمرة والخاوية.. وإذا كانت العبادات تقام بمعزل عن النفس والروح والوجدان والعقل الواعي والرشيد فهي مجرد نشاط اجتماعي مفرغ من محتواه الحضاري الدافع للعلا، ولن يكون لها أي أثر على كمال وجمال النفس السوية، التي ستبني ظلال الهدى في الأرض.

        فمتى يدرك مقاصد العبادات؟ ومتى ينهض بروح وجوهر العبادات لينطلق بعدها نحو تعميق رؤيته المقاصدية والواقعية لهذه العبادة، التي اختارها لتكون موضوعا لخطابه الدعوي المقبل؟

        - ثالثا: رؤية مقاصدية واقعية لعبادة الصيام:

        وهنا يتسـاءل بعد نهايـة الدورة التكوينية الروحـانية الربانية في مدرسـة شهر رمضان والتي نال بها المسلمون ثلاث شهادات إسلامية، فدخلوا عشره الأول وصاموا وقاموا وتصدقوا وحازوا شهادة (الرحمة) ، وصاموا وقاموا وفطروا صائما عشـره الثاني ونالوا شـهادة (المغفرة) ، وصاموا وقاموا وتزكوا زكاة [ ص: 140 ] الفطر عشره الثالث ونالوا شهادة (العتق من النار) ، كما جاء في الحديث الشريف في التهوين على المسلم من مشاق الصيام، وتعظيم أجره بباب الريان، الذي لا يدخله سوى من قام بعبادة الصيام [6] .

        وبالتالي، فقد نال المسلم إجازة مدرسية ربانية من مدرسة شهر رمضان. فإذا استبصرنا بالمبضع الجراحي المقاصدي حديث باب الريان، وحديث "..وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار" لوجدنا أن تعليلها وكشف اليسير من أسرارها الروحية والعائدية يثلج كوامن ومشاعر ودخائل الفرد المسلم الصائم؛ لأن الفهم المقاصدي يحول قيمة العبادة من حالة اعتقاد قلبية مبهمة الأبعاد ومن كونها تصرفا تعبديا اعتياديا ومظهريا إلى كونها اختيارا وإقبالا وممارسة حرة ومؤسسة على نعمة العقل والروح والوجدان، التي أمرنا الله تعلى بأن نتعبده من خلالهما أيضا.

        وفي ضوء هذه الرؤية المقاصدية يفهم العقل والوجدان المسلم الترابط السري بين هذه القيم الربانية الخالدة (الرحمة- المغفرة - العتق من النار) ، [ ص: 141 ] ويخاطب دخائل نفسه السوية، بعيدا عن الرؤية الظاهرية لفقه هذه العبادة، قائلا: إن الرحمة صفة من صفات ربنا الأساسية في الإسلام، فربنا رحمن بخلقه رحيم بعباده. والرحمة شرط أساس لاستمرار الحياة السوية والطبيعية بين أفراد الجماعة والمجتمع، وهي أرضية ومناخ وبيئة الغفران والتسامح والصفاء الوجداني والقلبي والسلوكي بين الجماعة المسلمة، ونتيجتهما المنطقية هي: تحصيل الرضى الرباني بالعتق من النار.

        ولا ريب أن هذا بعض أسرار الفقه المقاصدي لإدراك جوهر هذه العبادة المتميزة؛ لأن الفقه المقاصدي لجوهر ومعنى ومقصد العبادة، هو الذي يحول ويترجم ويحرك الأحكام العملية التكليفية، التي يضطلع بها المكلف، إلى طاقة فعالة تسير وترقى به نحو الكمال، الذي ارتضاه له الله سبحانه وتعالى يوم خلقه وفطره على ملة وشريعة الإسلام؛ ولأنه في غياب إدراك المقصد تتحول العبادة إلى مجرد صورة باهتة بلا معنى ولا حقيقة لها.

        ومن هنا تتولد في عقل ووجدان المكلف كتل من الطاقة الخلاقة لفقه جوهر العبادة، وهو الذي تتأبى وتستعصي وتستغلق عنه بعض أو الكثير من العقول أحيانا وأزمانا وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (الإسراء:85) ، ليبقى العقل والوجدان والروح السليمة في حركة عملية وحالة موران ونشدان دائم ومستمر للكشف عن بعض الأسرار والحقائق، التي تأبت عن من سبقنا لحكمة لا يعلمها إلا ربنا سبحانه وتعالى، ولربما ادخر لنا كشف أجزاء من [ ص: 142 ] أسرارها، وسيترك لمن سيأتي بعدنا الكشف عن أسرار أخرى حتى يطوي السماء كطي السجل للكتب.

        وبمثل هذه المحادثة السرية الذاتية العقلية التعبدية الذوقية، في مكامن النفس المـخبتة والتي تخرج بالعبادة من جانبها الشكلي الفقهي الظاهري والطفولي، تروح العبادة بل تغدو وتنطلق إشعاعاتها غير المرئية نحو تفعيل جانبها وجوهرها المقاصدي الموكول بها في نفسية وجسد وعقل وقلب المتعبد، ما يعطي بدوره النفس الإنسانية دورها وفاعليتها الاجتماعية المنتظرة منها؛ لأن أي عبادة نمارسها ونؤديها من غير استبطان واستكشاف بعض ما جاد به المولى سبحانه وتعالى علينا من أسرارها وحقائقها المقصودة، تصبح مجرد حركات وتمتمات ووظيفة مهدرة المقصد الروحي والعقلي والاجتماعي.. ويصدق هذا توجيهه، عليه الصلاة والسلام "رب قائم حظه من قيامه السهر، ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش" [7] ، وقوله: "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" [8] ، وغيرها من الأدلة الدالة على ضرورة استبصار روح وجوهر العبادة، فلا قيمة للشكل إذا اختل وفقد الروح والمضمون.

        وينصرف عقل ووجدان وقلب المسلم الصائم، وهو يستمد مستواه وقيمته [ ص: 143 ] من ممارسة أدائه العقلاني السليم والمطلوب شرعيا لتعاليم الدين، نحو جوهرية ومقصدية الحالات بفقه مقاصدي يرتقي بالعبادة إلى مصاف وقمم الممارسات الرشيدة والواعية، فيجاول في دخائل نفسه البحث عن حقيقة وماهية قيمة (الرحمة) ، ما يفضي في أعماق فكره وروحه منطقيا بأن: التراحم والرحمة بين المسلمين في التعاون فيما بينهم في العشر الأوائل يساعدهم ويعينهم على تأدية هذه العبادة الشاقة، وسيفضي بهم -لا محالة- إلى خلق جو وفضاء من الرحمة فيما بينهم، وهذه المرحمة الـمظللة لشبكة علاقاتهم ستقودهم بدورها نحو مغفرتين اثنتين، إحداهما بشرية فيما بينهم وهي مهمة في تنمية وترقية شبكة العلاقات الاجتماعية السوية والبانية والمتكاملة بينهم، والثانية مغفرة ربانية تتنزل عليهم من لدن رب العزة الرحمن الرحيم، فتحل بهم السكينة والوقار، وهي بدورها ستوصلهم نحو ربهم ليعتق رقابهم من نار الدنيا وجحيم فساد شبكة علاقاتها الاجتماعية، وهي الطريق الصحيح والمباشر لاستحقاق جنة ربهم الراضي عنهم، مصداقا لقوله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (الأعراف: 96).

        فأي عبادة تفقد بعدها المقاصدي لدى المتعبد ستخمد وستتحول إلى مجرد طقوس فارغة تؤدى فقط؛ لأن إدراك المقصد من العبادة هو الضابط والمحدد الأساس لتوجه وصوابية التدين والتعبد الصحيح والسليم، وهو الذي يحول طاقات ومواهب الإنسان الكامنة إلى فعل وسلوك مدني وحضاري [ ص: 144 ] يتجلى في شبكة العلاقات الاجتماعية السوية، وفي حركة العمران أيضا.

        وأي أمة أو حضارة لا ترى في ما تمارسه من طقوس تعبدية جدوى وروحا حتما سيفضي بالكثير من معتنقيها إلى حالات الملل والسآمة، وستترك في لحظة ما إنفاق وتسخير هذه الجهود والأوقات المهدرة والمبذولة فيما لا ينفع ولا يجدي بحسب ظنها، وهو الأمر الذي أدى بأتباع الكثير من الأديان إلى ترك ديانتهم والتحول نحو الإسلام، بعد رحلة معرفية وروحية شاقة وطويلة للدخول في الإسلام بعد الاطمئنان إلى تعاليمه وطقوسه التعبدية، والمهم عندي: كيف نحافظ على هذا المنجز الدعوي والحضاري؟

        وأي عبادة تمارس بعيدا عن الجوهر المقاصدي لروح الدين والعبادة نفسها، ستتحول إلى مجرد فكرة سلبية مثبطة عوض أن تكون فكرة إيجابية محركة، وستؤدي إلى ممارسة تدين مغشوش ومشوه ومعطوب أيضا نظريا وواقعيا، وستحول -لا محالة- معتنقيها إلى مجرد كائنات أنانية تجري وتتزاحم من أجل الوقوف في الصف الأول للصلاة ولو على حساب النظام الاجتماعي والحشمة والوقار والخشوع ومزاحمة الآخرين، بل طردهم من الصف الأول بحجج تخلفية، كما هو حال الملايين من مصلينا، الذين يعتقدون الفهم الظاهري للتبكير للصلاة ولقيمة الصف الأول، فكم من مصل في الصف الأول ليس له من صلاته سوى العشر أو الثمن أو لا شيء، كما جاء في الحديث والأثر؛ ذلك أن جوهر العبادة اجتماعي قبل أن يكون فرديا، وما تهذيب الفرد إلا لخلق عملية وحالة انسجام جمعية وجماعية واجتماعية فاضلة في الأمة، كما كان حال [ ص: 145 ] الجماعة المسلمة الأولى.

        وهنا واجب على كل داعية ومدعو - بفعل تأثيرات الخطاب الدعوي الرصين- أن يسائل نفسه قائلا: هل بالفعل خرجت من مدرسة رمضان وأنا أحمل هذه الإجازات الثلاث؟ وهل بالفعل نلتها عن استحقاق؟ وهل بالفعل كان الدين والعبادة بالنسبة لي قوة روحية فجرت طاقاتي وأججت فاعليتي؟ هل بالفعل بعثت عبادة الصيام في روح النشاط وارتقت بذاتي روحا وظاهرا؟ هل بالفعل حاولت الارتقاء إلى سلم الكمال، الذي أراده لي رب العزة من ممارستي لهذه العبادة؟

        جواب هذا سهل وواضح وبين في حركة الأمة المسلمة في مختلف ميادين الحياة والمدنية والحضارة، وفي مدى مساهمتها في هداية البشرية الضالة.. وهكذا ينحو في قراءاته وصياغاته لسائر الموضوعات والأحكام والتوجيهات والأوامر والنواهي الشرعية.

        وهنا يكون الداعية قد وضع اللمسات العلمية والمعرفية والفكرية والمنهجية والفنية والتقنية على خطابه الدعوي، الذي سيتأكد من نجاحه بعد إلقائه وتوجيهه لجمهور المدعوين، وذلك عبر طرق قياس الأثر وردة الفعل، بالبحث الميداني من جهة وانتقاء العينات ودراستها، أو بطرق القياس السلوكية الأخرى من جهة أخرى [9] .

        [ ص: 146 ] [ ص: 147 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية