الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المطلب الثاني

        علم فقه الواقع والمحل

        قيمة مركزية لنجاح العمل الدعوي

        يعد علم فقه الواقع وعلم محل التنزيل أحد العلوم الرئيسة، التي يجب على الداعية امتلاكها، بله التمكن والتحكم فيها، نظرا لما لها من خصوصيات تكسب العمل الدعوي الأصالة والتسديد والنجاح، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير من المواقف الدالة على أهمية اكتساب هذا العلم، والتمهر فيه بحذق.

        فقد كان الكثير من الصحابة، رضي الله عنهم، يطلبون منه أن يوصيهم حال تـأميره إياهم، أو حال سـفرهم، أو حـال إقدامهم على تـأدية مهمة، أو حال شعورهم بحالات من الشوق والوجد والوله لكسب رضوان الله سبحانه وتعالى، أو في حالات وترات النفس السوية.. وكان صلى الله عليه وسلم يجيب كلا وفق مكوناته وحاله وظرفه، ولعلنا نقدم نتفا من منهجه صلى الله عليه وسلم في حذق فقه الواقع ومحل التنزيل نبين من خلالها أهمية هذا العلم والباب من الدعوة.

        - أولا: سؤال واحد وأجوبة متعددة.. "أي الأعمال أفضل"؟:

        1- سؤال أحد الصحابة رضي الله عنه :

        سأل أحد الصحابة، رضي الله عنهم، يوما النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال، وكان الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه حاضرا فحفظ ونقل لنا إجابته، عليه [ ص: 99 ] الصلاة والسلام، قائلا: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله".. قال: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله".. قال: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور".. وفي رواية: "إيمان بالله ورسوله" [1] .

        2- سؤال أبي ذر الغفاري رضي الله عنه :

        وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: "الإيمان بالله والجهاد في سبيله"، قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: "أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا".. قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: "تعين صانعا أو تصنع لأخرق".. قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: "تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك" [2] .

        3- سؤال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :

        عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "سـألت النبي صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصـلاة على وقتها".. قال: ثم أي؟ قال: "ثم بر الوالدين" قال: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سـبيل الله" قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزادني [3] .

        [ ص: 100 ] وكانت إجابته صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول للصحابي السـائل رضي الله عنه مرتبطة بحاله وقوته، فهو من أهل الصفة، وفقرائها، ومن الغرباء عن المدينة، ولذلك أظهر له ترجمة مختلفة للإيمان ترجمت إلى قضـايا اجتماعية لها صـلة وثيقة بشكله ووضعه.

        بينما كانت إجابته صلى الله عليه وسلم في الحديث الثاني مشابهة للأولى، في مسائل الإيمان والتوحيد والجهاد، معرجا على أعماق ومكنونات نفسية السائل حين عرفه بأن قيمة كل نفس بمقدار قربها من رضى الله سبحانه وتعالى، فضلا عن تركيزه صلى الله عليه وسلم على قضايا التعاون الاجتماعي المشترك، منتقلا ومتدرجا من التعاون الإيجابي إلى درجة الانكفاف السلبي، الذي هو شكل من أشكال التواصل الاجتماعي البناء، وذلك بكف الشر عنهم.

        فيما تنوعت أجابته صلى الله عليه وسلم في الحديث الثالث بالتأكيد والتركيز والترتيب على أهمية فريضة الصلاة، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله.

        والمتمعن في هذه الأجوبة الثلاثة على السؤال نفسه يتبين تنوع إجابة النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار المحل، وباعتبار ظروف ونفسية ووضعية السائل.. ولعل أهم ما يستنتج منها الآتي:

        1- تضمنت الإجابة الموضوعات والأحكام نفسها على وجه التقريب: (الإيمان، الصلاة، الجهاد).

        2- جاء ترتيب الإيمان بالله على رأس الحديثين الأول والثاني، والصلاة في وقتها في الحديث الثالث، لكونها الوجه العملي للإيمان بالله والتوحيد.

        [ ص: 101 ] 3- تكرر في الحديث الأول الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم مرتين في بداية الحديث ونهايته.

        4 - وتكرر الجهاد بصيغتين، الجهاد بمعنى القتال، والحج الذي هو جهاد النساء من أمة الإسلام.

        وترجم في الحديث الثاني رضوان الله تعالى بالقضايا الاجتماعية المختلفة.

        5- ترتيب التفاعل السلبي ككف الشر في آخر سلم الأولويات الشرعية والمعاملاتية للسائل.

        - ثانيا: وصايا وأسئلة واستفسارات مختلفة لمستوصين كثر:

        كثر جمهور الصحابة المستوصين رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقد ورد في السنة المطهرة الكثير من الأسئلة، التي جاءت من قبل الكثير من الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، بصيغة الوصاية، فيقول السائل: يارسول الله، (أوصني) ، وتباينت وصية الرسول صلى الله عليه وسلم تبعا لحقيقة وظروف ونفسية السائل، ولعلنا نسوق أمثلة لتبيين أثر وأهمية التحكم في علم فقه الواقع وتحديد وضبط محل التنزيل في تحديد نوعية وصياغة الإجابة.

        1- يا رسول الله.. أوصني:

        جاء الصحابي حرملة بن عبد الله التميمي العنبري رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركب من قومه، ولما أزمع القفول مع قومه قال: يا رسول الله، أوصني.. قال: [ ص: 102 ] "اتـق الله.. وإذا كنـت في مجلس فقمت منهم وسـمعتهم يقـولون ما يعجبك فأته، فإذا سمعتهم يقولون ما تكره فلا تأته" [4] .

        والمتمعن في هذا الحديث يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يركز في موعظته وتوجيهه على ركن التقوى، ثم يتجه إلى تبيين خيار المجالس من سيئها، ووجوب إتيان مجالس الخير، وتجنب مجلس السوء، لعلمه بنفسية السائل من جهة، ولعلمه بنوعية قومه ومجتمعه، الذين تكثر فيهم مجالس السوء من جهة أخرى.

        2- أوصني:

        عن أميمة، رضي الله عنها، مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت:كنت أصب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءه، فدخل رجل فقال: أوصني.. فقال: "لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت وحرقت بالنار، ولا تعص والديك وإن أمراك أن تخلى من أهلك ودنياك فتخل، ولا تشربن خمرا فإنها مفتاح كل شر، ولا تتركن صلاة متعمدا، فمن فعل ذلك برئت منه ذمة الله وذمة رسوله" [5] .

        والمتدبر في هذا الحديث يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يتجه نحو هذا الصحابي المستوصي، فيركز صلى الله عليه وسلم على قيمة التوحيد، وعلى طاعة الوالدين، واحترام أداء [ ص: 103 ] الصلاة في وقتها، وتجنب الخمر لكونها مفتاح كل شر.

        3- من أولياء الله؟

        عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أولياء الله؟ قال: "الذين إذا رءوا ذكر الله" [6] .

        في هذا الحديث ربط النبي صلى الله عليه وسلم مفهوم الولاية والمكانة الاجتماعية في المجتمع بنوعية فاضلة ومتميزة من الناس، يستدعى الله وعظمته عند رؤيتهم. وهنا نتبين كيف تحولت القيم الإيمانية السامية في أقوال وسلوكات وأفعال نوعية مخصوصة من الناس، وهذا لطبيعة ونوعية محل وواقع السؤال.

        4- متى الساعة؟

        عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: "وماذا أعددت لها"؟ قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال: "أنت مع من أحببت".. قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحـنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : "أنت مع من أحببت".. قال أنس: "فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم" [7] .

        [ ص: 104 ] وفي الحديث الغيبي الدقيق والعصي عن الجواب، نظرا لحدود وقصور وتوقيفية المعارف النبوية فيه، ولاختصاصها وحصرها في إطار المعارف الإلهية فقط: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" [8] ، اتجه البيان النبوي الشريف نحو تفسير السر الملكوتي إلى عملية تحضير وإعداد شيئية وروحية وتعبدية من جهة، وإلى دخائل وأشواق وجدانية وشعورية وانفعالية من جهة ثانية، تمثلت في التركيز على عاطفة الحب الغامرة، المفضية بنجاة السائل والسامع والعامل والمقتفي الأثر الصادق في مشاعره بالمكانة المرجوة، وهنا تحددت الإجابة بناء على دخائل ومخارج نفسية وشخصية السائل.

        5- "سل حاجتك":

        وفي مواضع أخرى يتجه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه طالبا منهم السؤال، بعد أن يتصفح قسمات وجوههم، ويعرف حاجتهم، أو رغبتهم في طلب حاجة، فيعفيهم من ذل السؤال وعنت الإحراج، فيقول لهم: "سلوا"، أو "سل حاجتك"، فيتشجعون ويسألون حاجتهم، ويجدون جوابها بين ثنايا رحمته صلى الله عليه وسلم فيعطي كل سائل حاجته، ويخط له طريقها الصحيح، ويلزمه بأداء حقها لينالها..

        فهذا الصحابي الجليل ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه يقول: كنت أبيت [ ص: 105 ] مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: "سل".. فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: "أو غير ذلك"؟.. قلت: هو ذاك، قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود" [9] .

        6- تعليم وقائي:

        عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : كنا جلوسـا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أي عرى الإسلام أوثق"؟ قالوا: الصلاة.. قال: "حسنة، وما هي بها".. قالوا: الزكاة.. قال: "حسنة، وما هي بها".. قالوا: صيام رمضان.. قال: "حسن، وما هو به".. قالوا: الحج.. قال: "حسن، وما هو به".. قالوا: الجهاد.. قال: "حسن، وما هو به".. قال: "إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله" [10] .

        في هذا الحديث نجد النبي صلى الله عليه وسلم يعكس المنهج ويتجه لتناول طرح السؤال عوض انتظاره من الصحابة، رضوان الله عليهم، نظرا لإحاطته بظروف وحيثيات المجلس، وخشية تسـرب الملل إلى نفوس الصحابة من الصـمت، ورغبة من النبي صلى الله عليه وسلم ولعلمه بحالهم وواقعهم الانفعالي والشعوري، ولدرايته صلى الله عليه وسلم بالجو النفسي والمعنوي المخيم على الحلقة والمتحلقين والجالسين، فيتحرك [ ص: 106 ] ويبادر بالسؤال، ثم يتركهم يخمنون ويجيبون، ليعلمهم طريقة السؤال والجواب من جهة، وليحثهم على التفكير الإيجابي أيضا من جهة ثانية، وليبين لهم ترتيب وأهمية الفرائض والواجبات من جهة ثالثة.

        وعلى الرغم من أهمية ومكانة تلك الفرائض في الإسلام، إلا أنه صلى الله عليه وسلم بين لهم بردوده نحوها بأنها ذات قيمة "حسنة، وما هي بها"، ولكنها ليست هي المعنية بالسؤال الاستراتيجي، لينطلق بعد طول نفس وصبر على مجموع التدخلات والإجابات ليبين لهم، أن: القيمة الأعلى والأكبر والأخطر والأدق في منظومة القيم والشرائع التعبدية الإسلامية هي تحديد مسألة الانتماء والولاء وتحديد المواقع، وضبط مواطن التخندق في الصفوف، وهي مرتبطة تمام الارتباط بمقدار الولاء والقرب من الله تعالى، وهنا يتحدد ويتجلى المعنى الحقيقي للإيمان والتوحيد الخالص.

        فماذا تنفع الصلاة والصيام والزكاة والحج كفرائض تعبدية رئيسة تشكل قوام الإسلام، وماذا يجدي الجهاد في سبيل الله، على قدره وعظمته في حفظ البيضة والذب عن الحرمة والمقدسات، إذا كانت المعايير والضوابط الانتمائية هيولية ومائعة وغير منضبطة؟ ذلك أن مسألة تحديد معايير الانضمام إلى معسكر والانتـماء إليـه هي التي تحـدد مصـير ومسـار ومقاصـد ومنافـع تلك الفرائـض والعبادات، بل ومصير الإنسـان الآجل والعاجل كله، وإلا آل حالهم إلى ما تردى إليه حال بني إسرائيل حينما وصفهم الله تعالى بقوله: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (المائدة:78-79) ، [ ص: 107 ] وفيهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله، ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض [11] " [12] .

        وجماع أقوال الشراح والمفسرين والدارسين من سلف وخلف الأمة ينصب على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد راعى حال وواقع وظرف ونفسية وشخصية وطبيعة كل سائل، وأجاب الإجابة التي تصلح له، فضلا عن خلق [13] وإيجاد الرغبة لدى السائل أو السامع والمستمع أو المقتفي الخطى للترغيب في إتيان ذلك الأمر أو الانتهاء عنه، فما يكون عملا فاضلا عند هذا قد يكون مفضولا عند [ ص: 108 ] الآخر، وما يكون حقه الصدارة عند هذا، يكون تأخيره عند ذاك، وهكذا يوفق الله كلا لترتيب الأعمال وفق مشروع وبرنامج إرادي واع من المكلف، تحدده قدرته واستطاعته ونفسه وظرفه وحاله ورغبته وشوقه.. فمنهم من يرى إصلاح دخيلته أولى لحاجته لذلك، ومنهم من يرى إصلاح ظاهره بكثرة العبادة لصلاح سريرته، ومنهم من يرى الجهاد أفضل له، ومنهم من يرى الذكر أصوب لروحه ونفسه، ومنهم...

        وجماع ذلك كله وسره وجوهره يكمن في أثر تلك العبادات والفرائض والواجبات والوصايا في تشكيلها خطة عمل مدروسة للرقي بالنفس الإنسانية للكمال البشري، ونيل رضى ربها وخالقها، وإلا صارت العبادات أشبه بطقوس شكلية كالتي يؤديها السدنة والكهنة والعباد في المعابد وهم يقدمون قرابينهم للآلهة، فمن لمن تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، أنه لا أثر لها في حياته الفردية والجمعية، ومن لم ينهه ويهذبه صيامه عن الفحشاء والمنكر، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، ومن لم يؤدبه حجه ويرجع كيوم ولدته أمه، فليس له سوى السفر والتعب.

        ومن هنا يجب على الدعاة والقائمين بعملية الاتصال الدعوي ترقب هذه المعالم أثناء إعداد وتنفيذ خطابهم الدعوي في جمهور المدعوين.

        ومن هنا ننطلق لتبيين دور علم المقاصد وفقه الواقع ومحل التنزيل لنجاح الداعية عبر المبحث الثالث.

        [ ص: 109 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية