الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              - العنكبوتية:

              بينت الدراسات العلمية في مجال علم الأحياء أو البيولوجيا، أن أنثى العنكبوت، بحكم طبيعتها، تقوم بنسج بيتها وليس العنكب الذكر، وقد اكتشف أن الأنثى تبدأ بذلك عند بلوغها، استعدادا للزواج، فتبني البيت ليجذب الذكر، الذي لا تساعده طبيعته على القيام بمثل هذا العمل، وتغزل أنثى العنكبوت بيتها ليكون فخا وكمينا لكل حشرة، يقول المولى عز وجل في سورة العنكبوت: ( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ) (العنكبوت:41).

              تصف هذه الآية الكريمة بيت العنكبوت بأنه أوهن البيوت، وكلمة الوهن تعكس قمة المعاناة والألم، التي يعيشها أهل البيت، فهو بيت هش وضعيف ماديا ومعنويا، إذ لا يقي ساكنه أخطار الطبيعة، ولا يدفع عنه شر الكائنات الأخرى.. وهذه أيضا حال من يلجأ لغير الله ليتخذ منه معينا ونصيرا، فالحياة داخل بيت العنكبوت، تتسم ليس فقط بضعف الترابط الأسري بين الأفراد، بل أيضا بعلاقات مصلحية مؤقتة، فإذا ما انتهت هذه العلاقات المنفعية، انقلب الأفراد أعداء يقتل بعضهم بعضا، لذلك فهذا البيت أبعد ما يكون عن صفة البيوت، بما يفتقر إليه من أمان وسكينة وطمأنينة، فالعنكبوت الأنثى تقتل ذكرها بعد أن يلقحها وتأكله، والأبناء يأكل بعضهم بعضا بعد الخروج [ ص: 114 ] من البيض، إن هذه العلاقات الشاذة بين أفراد البيت تجعله بحق أوهى بيوت المخلوقات كافة [1] .

              وقد ذهب الطبري في تفسيره للآية (41) من سورة العنكبوت إلى القول بأن المقصود بالمثل فيها هم المشركون، الذين يتخذون آلهة من دون الله، ويطلبون نصرهم ونفعهم وقت الحاجة إليهم وعند الشدائد، فهؤلاء مثل العنكبوت في ضعفها، اتخذت بيتا ضعيفا لا يغني عنها شيئا في السراء والضراء، ووجه الشبه في المثال المضروب في القرآن الكريم شديد الوضوح، فالـذين يستغيثـون ويلجـأون للظلمة من البشر لقضـاء حاجاتـهم وحمايتهم، إنما يفعلون ذلك لتحقيق مصالح دنيوية زائلة وفانية، وبالتالي فالولاية لغير الله تعالى، هي ولاية هشة وواهية، لا تسمن ولا تغني من جوع، وهذه هي حال القوي، الذي يلجأ إليه الناس طلبا للدعم والحماية، والتسلح بأسباب القوة، ولو علم البشر الجهال، أن الذين يلجأون إليهم من الأقوياء، هم أصحاب قوة هشة وزائلة، لما طلبوا العون إلا من الله تعالى [2] .

              إن كثيرا من الناس تخدعهم قوة المال أو قوة العلم أو قوة الحكم والسلطان، سواء أكان من يملكها فردا أو جماعة أو دولة، فيعتقدون، نظرا لضعف إيمانهم بالله تعالى، أن هذه القوى تتحكم في أقدار الناس ومصائرهم، فهي قادرة على حمايتهم ونصرتهم وإشباع حاجاتهم ورغباتهم، فيلجأون إليها، ويدورون في فلكها، ويتذللون ويخضعون لها، ليتقوا شرها، ويكسبوا رضاها، [ ص: 115 ] ويحتموا في حماها، ويجتهدوا للحصول عليها، ليتسلطوا بها على رقاب البشر، قال تعالى: ( قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ) (نوح:21)، وينسى هؤلاء في خضم سعيهم المحموم هذا، القوة الأصلية التي تخلق كل أصناف القوة، وتتحكم بها وتوجهها كما تريد، إنها قوة الله العزيز الجبار، التي لا قوة بعدها ولا قوة قبلها [3] ، وما عدا ذلك فهو سراب زائل: ( يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ) (النور:39).

              التالي السابق


              الخدمات العلمية