الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

النص الشرعي وتأويله (الشاطبي أنموذجا)

الدكتور / صالح سبوعي

- العلاقة بين المعرفتين اللغوية والشرعية

ما دام القرآن والسنة عربيين، جاريين على أساليب كلام العرب، وجب للتعامل معهما، واستنباط الأحكام منهما «الدربة في اللسان العربي» [1] . ومن هـنا كانت معرفة لغة العرب « الباب الأول من أبواب فقه الشريعة» [2] ؛ إذ أوحاها الله إلى رسوله على لسان العرب، فوجب اتباع معهودهم «وعرفهم المستمر في لسانهم، فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثم عرف فلا يصـح أن يجري في فهمها على ما لا تعرفه، وهذا جار في المعاني، والألفاظ، والأساليب» [3] . [ ص: 67 ] ويرى الشاطبي «أن على الناظر في الشريعة، والمتكلم فيها، أصولا وفروعا، أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربيا، أو كالعربي في كونه عارفا بلسان العرب، بالغا فيه مبالغ العرب، أو مبالغ الأئمة المتقدمين، كالخليل وسيبويه ... وليس المراد أن يكون حافظا كحفظهم، وجامعا كجمعهم، وإنما المراد أن يصير فهمه عربيا في الجملة، وإن لم يبلغ ذلك، فحسبه في فهم معاني القرآن التقليد» [4] ، وذلك إذا تعلق الاستنباط من النصوص مباشرة. ولكن إذا تعلق الاستنباط بالمعاني من المصالح، والمفاسد مجردة عن اقتضاء النصوص لها، فلا يحتاج إلى معرفة العربية، بل يلزم فيه العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة، وتفصيلا [5] .

المعرفة اللغوية إذا سبيل إلى طلب فهم الشريعة، «ولا سبيل إلى تطلب فهمها من غير هـذه الجهة» [6] فإذا «فرضنا مبتدئا في فهم العربية، فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا فهو متوسط في فهم الشريعة، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة» [7] . فالعلاقة بينهما طردية، أو هـي علاقة «المقصد [ ص: 68 ] بالوسيلة» [8] ، أو عـلاقة «الوعاء بالمحتوى»، فهل يمكن الوصول إلى الغاية، أو الوقوف على المقصد بدون الوسيلة؟ ذلك ما تصوره الشاطبي ، رحمه الله.

علاقة اللفظ بالمعنى

شغلت العلاقة بين اللفظ والمعنى اللغويين، كما شغلت الأصوليين، وقد سبقت الإشارة، في آراء الشاطبي اللغوية إلى أنه كان يسعى إلى تأسيس نظرية لغوية تقوم على مراعاة المعنى، والمقصد الذي تؤديه الألفاظ، والصيغ. ويتضح ذلك في الآتي:

أ- دور العرف العربي في فهم معاني الخطاب

يؤكد الشاطبي ضرورة معرفة معهود العرب في لسانها، لفظا، ومعنى، وأسلوبا، ووجوب الالتزام بذلك المعهود، أو العرف العربي في فهم الشريعة، وأنه لا يصح أن يجري في فهمها على ما لا تعرفه العرب. ومن معهودها أنها « لا ترى الألفاظ تعبدا عند محافظتها على المعاني، وإن كانت تراعيها» [9] خدمة لأغراضها، ومقاصدها.

ومن معهودها كذلك أنها «تخاطب بالعام مرادا به ظاهره، وبالعام يراد به العام ويدخله الخصوص، ويستدل على ذلك ببعض ما يدخله في [ ص: 69 ] الكلام، وبالعام يراد به الخاص، ويعرف بالسياق، وبالكلام ينبئ أوله عن آخره، وآخره عن أوله» [10] . وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتوقع اللفظ الواحد للمعاني الكثيرة ... وغيرها من التصرفات العربية التي يجب أن تعرف، وتراعى في فهم الشريعة، وفي التكلم فيها [11] .

ب- أوجه مراعاة اللفظ في الوقوف على المعنى عند العرب

إن العرب قـد راعت الألفاظ وهذبتها، وأصـلحتها، لا لذاتها، وإنما بمقدار ما تؤديه من أغراض ومعان كامنة في النفس، وخدمة لمقاصدها؛ أي أنه لـما كانت الألفاظ « عنوان معانيها، وطريقا إلى إظهار أغراضها، ومراميها، أصلحوها، ورتبوها، وبالغوا في تحبيرها، وتحسينها، ليكون ذلك أوقع لها في السمـع، وأذهب بها في الدلالة على القصد». [12] ومثال ذلك [13] : ما أشار إليه النابغة الذبياني حينما أنشده حسان بن ثابت (ت40هـ) [14] :


لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دمـا     ولـدنا بني العنقاء وابني مـحرق
فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما

[ ص: 70 ] حيث بـين له عيوبا في ألفاظه، وعباراته، بدت له أنها لا تؤدي الغرض على تمامه، ولا تبلغ بمعانيه كل مبلغ؛ فقال له: لقد قلت: «الجفنات» فقللت العدد، ولو قلت: «الجفان» لكان أكثر، وقلت: «يلمعن في الضحى» ولو قلت: «يبرقن بالدجى» لكان أبلغ في المديح، لأن الضيف بالليل أكثر طروقا، وقلت: «يقطرن من نجدة دما» فدللت على قلة القتل، ولو قلت: «يجرين» لكان أكثر لانصباب الدم! وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن أنجبك.

ومثال ذلك أيضا، قول النابغة الذبياني (ت 605م) [15] :

فإنك كالليل الذي هـو مدركي     وإن خلت أن الـمنتأى عنك واسع
خطاطيف حجن في حبال متينة     تـمد بـها أيد إلـيك نـوازع

فهذا الشعر قد مدح صاحبه، وأدرج شعره ضمن الأشعار التي «أغرق قائلوها في معانيها» [16] ؛ وما ذلك إلا لاختيار الشاعر اللفظة المناسبة لمعانيه، وهي قوله: (كالليل) فهي كلمة جامعة لمعان كثيرة [17] . [ ص: 71 ] وهذه الملاحظات النقدية ترجع في مجملها إلى تحسين المعنى، وتجويده، لا إلى اللفظ وتجويده. فالظاهر أن الاهتمام بالألفاظ لا يكون إلا بمقدار ما تؤديه من معان وأغراض.

ج- الفرق بين المعنى الإفرادي والمعنى التركيبي

لا جدال في أن عناية العرب كانت بالمعاني المبثوثة في الخطاب، ولكن ليس كل المعاني يعتنى بها؛ فالمعنى الإفرادي الذي يقوم على اللفظة مجردة عن سياقها، وتركيبها قد لا يعبؤ به إذا كان المعنى التركيبي القائم على ضم تلك المعاني الإفرادية، والعبارات إلى بعضها تأدية للمعنى مفهوما دونه [18] . مثال ذلك [19] : ما أنشده ذو الرمة (ت117هـ) [20] :

وظاهر لها من يابس الشخت واستعن     عليها الصبا واجعل يديك لها سترا

فاعترض عليه أحدهم أنه كان قد أنشد: وظاهر لها من ( بائس) ، وليس (يابس) ، فرد عليه ذو الرمة : (يابس) و (بائس) واحد!! فالشاعر هـنا لم يول اهتماما للمعنى الإفرادي الذي تمنحه كل لفظة على حدة، مادام المعنى التركيبي قائما بهذه اللفظة، أو بتلك، ولا يتغـير. أما إذا [ ص: 72 ] كان المعـنى التركيبـي لا يقوم إلا عـلى الإفرادي فطـلبه، ومعرفته من الضـرورة بمكان. ومثـاله: ما روي عن عـمر رضي الله عنه أنه قرأ قـوله تعالى: ( أو يأخذهم على تخوف ) (النحل:47) ،

فسأل عنه، فقال له رجل من هـذيل التخوف عندنا التنقص. وما سؤاله عن المعنى الإفرادي إلا لقيام المعنى التركيبـي (فهم الآية) عـليه، وما يحمـله العـلم بها من إيمان، وعمـل. أما ماعـدا ذلك من تلمـس غرائب النص، ومعـانيه على غير الوجـه الذي ينبغـي، فهو تكلف، وخـروج عن المقصـد، أو المعنى المراد [21] .

د- عدم التكلف والإغراب في معرفة معنى اللفظ

لمـا كان المقصود من الخطاب تفهم معناه، وليس التفقه في عبارته، «بل التفقه في المعبـر عنه، وما المراد به» [22] ثم التـعبد بمقتضاه؛ كانت الدعوة إلى الاهتمام بذلك المقصود، والحث على معرفته، وإدراكه. وذلك مقصود العرب في كلامها؛ حيث إنها لا تتكلف في ألفاظها، ولا تعتبرها كل الاعتبار إلا من جهة ما تؤديه من مقاصد وأغراض.

ولما كانت بعـض الوجـوه مما يمتنع بها الوقوف على المعنى المراد، أو مقصود الخطاب، كانت الدعوة إلى معرفتها، ونبذها.. ومن هـذه [ ص: 73 ] الوجوه التعمق، والتكلف في معاني الألفاظ إلى درجة الإغراب! ففرق بين من يهتم بالمعنى الإفرادي يروح فيه كل وجه وباب، كالمبالغة في تحسين الألفاظ، وتنميقها، والتساؤل عن اختلافها، وتباينها والمعنى واحد، وبين من يروم المعنى التركيبي ويقصده. فالحاصل الاعتناء بفهم المعنى التركيبي الذي هـو معنى الخطاب لأنه المقصود، والمراد، ولا يكون الاهتمام بالإفرادي، أو التكلف فيه إلا بقدر ما يوقفنا على المطلوب والمراد [23] .

وبذلك يؤكد الشاطبي أن العناية، والاهتمام إنما يكون «بفهم معنى الخطاب، لأنه المقصود، والمراد، وعليه ينبني الخطاب» [24] . ولأن العرب «إنما كانت عنايتها بالمعاني، وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها» [25] ؛ لهذا «لا يستقيم للمتكلم في كتاب الله، أو سنة رسول الله أن يتكلف فيهما فوق ما يسعه لسان العرب، وليكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن تعتني به، والوقوف على ما حدته»[26] ، ومن أغفل ذلك وتلمس غرائب النص ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي حتى يستبهم، ويستعجم كان «عمله في غير معمل، ومشيه على غير طريق» [27] . [ ص: 74 ]

هـ- العناصر غير اللغوية المعينة على فهم المعنى

تظهر أهمية العناصر غير اللغوية في إيضاح المعنى بارزة جلية؛ فرب «إشارة من يد في أثناء الكلام، أو غمزة من عين، أو أي حادث عارض يكتنف الكلام، فيؤثر في دلالة اللفظ» [28] تخرج به عن معناه الظاهر. وهي تظهر في الكلام المنطوق، كما تظهر في المكتوب، إلا أنها في الكلام المنطوق تكون جلية أوضح منها في المكتوب، لرؤية المخاطب المخاطب مباشرة، ولكونها تظهر حية مجسدة يلحظها المخاطب، أما في المكتوب فإن الرموز اللغوية (القرائن المقالية) [29] هـي التي تؤدي المهمة نفسها في إيضاح المعنى، وتبليغ المراد.

التالي السابق


الخدمات العلمية