الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

النص الشرعي وتأويله (الشاطبي أنموذجا)

الدكتور / صالح سبوعي

- أثر فكره المقصدي في تشكيل فكره اللغوي

يظهر أثر فكر الشاطبي المقصدي في تشكيل فكره اللغوي المنطلق من فكرة مقاصد الشرع، الأصلية والتابعة، والمتمثلة عنده في أقسام ثلاثة، هـي: « الضروريات ، ويلحق بها مكملاتها، والحاجيات ، ويضاف إليها مكملاتها، والتحسينيات ، ويليها مكملاتها، ولا زائد على هـذه الثلاثة» [1] . ويؤصل الشاطبي، ويؤسس من خلالها المقاصد اللغوية ( الدلالة اللغوية ) . «فللشارع في شرع الأحـكام العادية، والعبادية مقاصـد أصلية، ومقاصـد تابعة، فأما المقاصد الأصلية فهي التي لا حظ فيها للمكلف؛ وهي الضروريات المعتبرة في كل ملة... وأما المقاصد التابعة فهي التي روعي فيها حظ المكلف، فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل الشهوات» [2] .

فقـد اعتـبر أن «المقاصـد الأصـلية هـي الضروريات التي لا حظ فيها للمكلف، بمعنى أنه ملزم بحفظـها أحب أم كره. وأن المقاصد التبعية هـي التي روعي فيها حظ المكلف، ويدخـل فيها حاجيته وكمالياته» [3] . مثال ذلك «النكاح، فإنه مشروع للتناسـل على القصـد الأول، ويليه طلب السكن والازدواج، والتعـاون على المصـالح الدنيويـة والأخروية؛ [ ص: 63 ] من الاسـتمتاع بالحلال، والنظر إلى ما خـلق الله من المحاسن في النساء... وما أشبه ذلك» [4] .

وهكذا الشأن في العبادات «فإن المقصد الأصلي فيها التوجه إلى الواحد المعبود وإفراده بالقصد إليه على كل حال. ويتبع ذلك التعبد لنيل الدرجات في الآخرة، أو ليكون المتعبد من أولياء الله تعالى، وما أشبه ذلك، فإن هـذه التوابع مؤكدة للمقصود الأصلي، وباعثة عليه» [5] . ينبني على ذلك أن تكون الأحكام الشرعية المقررة لحفظ المقاصد الأصلية مقدمة على الأحكام المقررة لحفظ المقاصد التوابع [6] ، مادامت المقاصد التوابع مؤكدة للقصد الأصلي ومقوية لحكمته [7] . وكما أن المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها، كذلك كانت الدلالة الإضافية خادمة للدلالة الحقيقية؛ من حيث إن الأولى (الإضافية) توضح الثانية (الحقيقية) ، وتقويها، وتؤكدها؛ فهي تكملها. ومثلما تراعى المقاصد التابعة حين الوقوف على المقاصد الأصلية، وجب كذلك مراعاة الدلالة التابعة التي هـي خادمة للدلالة الحقيقية للوقوف على هـذه الأخيرة. [ ص: 64 ] وبالنسبة إلى أخذ الأحكام من الدلالة الأصلية دون التابعة، يرى الشاطبي، رحمه الله، أنه لا خلاف في صحة اعتبار الدلالة الأصلية في استنباط الأحكام، والدلالة عليها؛ مادامت هـي مبتغى المتكلمين، وإليها تنتهي مقاصدهم. ومثاله: صيغ الأوامر والنواهي والعموميات والخصوصيات، وما أشبه ذلك مجردة عما يصرفها عن وضعها الأول [8] . وإنما الاخـتلاف في اعتبار الدلالة التابعـة في الدلالة على الأحـكام، أو عدم اعتبارها؟

ويصرح الشاطبي، رحمه الله، أنه لا اعتبار للدلالة التابعة في الدلالة على الأحكام، ولا يثبت الاستـدلال بها في ذلك؛ فهي مع الدلالة الأصـلية بمثابة التابع مـع متبوعـه، أو كوصـف من أوصـافه، فهي مكملة لها، ومؤكدة، ولكن تعتبر من جهة كونها تدل على معان، ودلالات زائدة على المعنى الأصلي! تتمثل في «آداب شرعية، وتخلقات حسنة» [9] . ومثال ذلك [10] :

تخلقات حسنة بين العبد وربه؛ تتمثل في إشعار العبد بقرب من يعبد منه، وضرورة تنـزيه المعبود عما يمتاز به العباد من غفلة وإعراض، وتقدير عظمة المعبود، وجلاله فيزداد العبد تقديرا لربه، وتعظيما له، وقربا منه. واستخلص ذلك من إيراد النداء بـ «يا» أحيانا، وعدم إيراده أحيانا [ ص: 65 ] أخرى؛ أو إيراد لفظ «الرب» أحيانا، وعدم إيراده أحيانا أخرى أيضا، بحسب العلاقة بين العبد وربه، قربا وابتعادا.

آداب في المعاملات بين العباد فيما بينهم، ومحاولة التنـزه عن المساوئ، والدنايا؛ كالتصريح بالأمور التي يستحيا من التصريح بها، ولزوم الكناية عنها تأدبا واستحياء، كالكناية باللباس أو إتيان الحرث عن الجماع، أو الكناية بالمجيء من الغائط عن قضاء الحاجة، وغيرها من الكنايات التي تحمل من السمو والرفعة ما لا يحمله التصريح! فيكون استخدام القرآن لها تعليما للمسلمين لاستخدامها في التعبير عن مقاصدهم، وأغراضهم بأسلوب أكثر أدبا.

الأدب في إجراء الأمور على العادات في التسببات، وتلقي الأسباب منها، دون محاولة خرقها، أو تجاوزها مراعاة لمعتاد الجمهور، وعمومه، وتنـزيلا عند معتاد فهمه وإدراكه. ولا يكون إجراء الأمور على حسب بعض الحالات الصوفية، أو استثناءات خارجة عن إطار معتاد فهم الجمهور.

وسعيا منه إلى جعل اللغة علمية؛ أي محددة الدلالة، واضحتها، تسهيلا لاستنباط الأحكام منها، ملائمة للوقوف على مقاصد الشرع ، فإنه يؤكد مراعاة النظرة الكلية التي تحيط بأجزاء النص وعناصره للوقوف على دلالته. ولعل ذلك نابع من نظرته المقصدية التي ترى ضرورة استحضار المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، حين استنباط الأحكام، والوقوف على الدلالة الشرعية. وهذا وجه آخر من وجوه تأثير فكره المقاصدي في فكره اللغوي. [ ص: 66 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية