المسألة الثانية
[ وطء الحائض في طهرها قبل الاغتسال ]
اختلفوا في ، فذهب وطء الحائض في طهرها ، وقبل الاغتسال مالك ، والجمهور إلى أن ذلك لا يجوز حتى تغتسل ، وذهب والشافعي أبو حنيفة وأصحابه إلى أن ذلك جائز إذا طهرت لأكثر مدة الحيض ، وهو عنده عشرة أيام ، وذهب إلى أنها إن غسلت فرجها بالماء جاز وطؤها ( أعني كل حائض طهرت متى [ ص: 53 ] طهرت ) وبه قال الأوزاعي . أبو محمد بن حزم
وسبب اختلافهم : الاحتمال الذي في قوله تعالى : ( فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ) هل المراد به الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض أم الطهر بالماء ؟ ، ثم إن كان الطهر بالماء ، فهل المراد به طهر جميع الجسد أم طهر الفرج ؟ فإن اسم مشترك يقال على هذه الثلاثة المعاني ، وقد رجح الجمهور مذهبهم بأن صيغة التفعل إنما تنطلق على ما يكون من فعل المكلفين ، لا على ما يكون من فعل غيرهم ، فيكون قوله تعالى : ( الطهر في كلام العرب وعرف الشرع فإذا تطهرن ) أظهر في معنى الغسل بالماء منه في الطهر الذي هو انقطاع الدم ، والأظهر يجب المصير إليه حتى يدل الدليل على خلافه ، ورجح أبو حنيفة مذهبه بأن لفظ يفعلن في قوله تعالى : ( حتى يطهرن ) هو أظهر في الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض منه في التطهر بالماء .
والمسألة كما ترى محتملة ، ويجب على من فهم من لفظ الطهر في قوله تعالى : ( حتى يطهرن ) معنى واحدا من هذه المعاني الثلاثة أن يفهم ذلك المعنى بعينه من قوله تعالى : ( فإذا تطهرن ) لأنه مما ليس يمكن أو مما يعسر أن يجمع في الآية بين معنيين من هذه المعاني مختلفين حتى يفهم من لفظة " يطهرن " النقاء ، ويفهم من لفظ " تطهرن " الغسل بالماء على ما جرت به عادة المالكيين في الاحتجاج لمالك ، فإنه ليس من عادة العرب أن يقولوا لا تعط فلانا درهما حتى يدخل الدار ، فإذا دخل المسجد فأعطه درهما ، بل إنما يقولون : وإذا دخل الدار فأعطه درهما ; لأن الجملة الثانية هي مؤكدة لمفهوم الجملة الأولى .
ومن تأول قوله تعالى : ( ولا تقربوهن حتى يطهرن ) على أنه النقاء ، وقوله : ( فإذا تطهرن ) على أنه الغسل بالماء فهو بمنزلة من قال لا تعط فلانا درهما حتى يدخل الدار ، فإذا دخل المسجد فأعطه درهما ، وذلك غير مفهوم في كلام العرب ، إلا أن يكون هنالك محذوف ، ويكون تقدير الكلام : ولا تقربوهن حتى يطهرن ويتطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ، وفي تقدير هذا الحذف بعد ، ولا دليل عليه إلا أن يقول قائل : ظهور لفظ التطهر في معنى الاغتسال هو الدليل عليه ، لكن هذا يعارضه ظهور عدم الحذف في الآية ، فإن الحذف مجاز ، وحمل الكلام على الحقيقة أظهر من حمله على المجاز ، وكذلك فرض المجتهد هنا إذا انتهى بنظره إلى مثل هذا الموضع أن يوازن بين الظاهرين ، فما ترجح عنده منهما على صاحبه عمل عليه ( وأعني بالظاهرين أن يقايس بين ظهور لفظ ( فإذا تطهرن ) في الاغتسال بالماء وظهور عدم الحذف في الآية ) إن أحب أن يحمل لفظ تطهرن على ظاهره من النقاء ، فأي الظاهرين كان عنده أرجح عمل عليه ( أعني إما أن لا يقدر في الآية حذفا ويحمل لفظ " فإذا تطهرن " على النقاء أو يقدر في الآية حذفا ويحمل لفظ " فإذا تطهرن " على الغسل بالماء ، أو يقايس بين ظهور لفظ " فإذا تطهرن " في الاغتسال وظهور يطهرن في النقاء ) فإن كان عنده أظهر أيضا صرف تأويل اللفظ الثاني له وعمل على أنهما يدلان في الآية على معنى واحد ( أعني : إما على معنى النقاء وإما على معنى الاغتسال بالماء ) وليس في طباع النظر الفقهي أن ينتهي في هذه الأشياء إلى أكثر من هذا فتأمله ، وفي مثل هذه الحال يسوغ أن يقال : كل مجتهد مصيب .
[ ص: 54 ] وأما اعتبار أبي حنيفة أكثر الحيض في هذه المسألة فضعيف .