الباب الثالث
في المياه .
- والأصل في وجوب قوله تعالى : ( الطهارة بالمياه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) وقوله : ( فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) وأجمع العلماء على أن ، فإن فيه خلافا في الصدر الأول شاذا ، وهم محجوجون بتناول اسم الماء المطلق له ، وبالأثر الذي خرجه جميع أنواع المياه طاهرة في نفسها مطهرة لغيرها ، إلا ماء البحر مالك وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - في البحر " " وهو وإن كان حديثا مختلفا في صحته ، فظاهر الشرع يعضده ، وكذلك أجمعوا على أن كل ما يغير الماء مما لا ينفك عنه غالبا أنه لا يسلبه صفة الطهارة والتطهير إلا خلافا شاذا روي في الماء الآجن عن هو الطهور ماؤه الحل ميتته ، وهو أيضا محجوج بتناول اسم الماء المطلق له ، واتفقوا على أن الماء الذي غيرت النجاسة إما طعمه أو لونه أو ريحه أو أكثر من واحد من هذه الأوصاف أنه لا يجوز به الوضوء ولا الطهور . ابن سيرين
واتفقوا على أن الماء الكثير المستبحر لا تضره النجاسة التي لم تغير أحد أوصافه وأنه طاهر ، فهذا ما أجمعوا عليه من هذا الباب .
[ ص: 25 ] واختلفوا من ذلك في ست مسائل تجري مجرى القواعد والأصول لهذا الباب .
المسألة الأولى
[ ] الماء المتنجس
اختلفوا في الماء إذا خالطته نجاسة ولم تغير أحد أوصافه ، فقال قوم : هو طاهر سواء كان كثيرا أو قليلا ، وهي إحدى الروايات عن مالك ، وبه قال أهل الظاهر ، وقال قوم بالفرق بين القليل والكثير ، فقالوا : إن كان قليلا كان نجسا ، وإن كان كثيرا لم يكن نجسا .
وهؤلاء اختلفوا في الحد بين القليل والكثير ، فذهب أبو حنيفة إلى أن الحد في هذا هو أن يكون الماء من الكثرة بحيث إذا حركه آدمي من أحد طرفيه لم تسر الحركة إلى الطرف الثاني منه .
وذهب إلى أن الحد في ذلك هو قلتان من هجر ، وذلك نحو خمسمائة رطل ، ومنهم من لم يحد في ذلك حدا ، ولكن قال : إن النجاسة تفسد قليل الماء وإن لم تغير أحد أوصافه ، وهذا أيضا مروي عن الشافعي مالك ، وقد روي أيضا أن هذا الماء مكروه . فيتحصل عن مالك في الماء اليسير تحله النجاسة اليسيرة ثلاثة أقوال : قول إن النجاسة تفسده ، وقول إنها لا تفسده إلا أن يتغير أحد أوصافه ، وقول إنه مكروه .
وسبب اختلافهم في ذلك هو تعارض ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك ، وذلك أن حديث المتقدم وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - " أبي هريرة " الحديث ، يفهم من ظاهره أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء ، وكذلك أيضا حديث إذا استيقظ أحدكم من نومه الثابت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " أبي هريرة " فإنه يوهم بظاهره أيضا أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء . لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ، ثم يغتسل فيه
وكذلك ما ورد من النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم .
وأما حديث أنس الثابت : " " فظاهره أن قليل النجاسة لا يفسد قليل الماء ، إذ معلوم أن ذلك الموضع قد طهر من ذلك الذنوب . أن أعرابيا قام إلى ناحية من المسجد فبال فيها ، فصاح به الناس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوه ، فلما فرغ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذنوب ماء فصب على بوله
وحديث كذلك أيضا خرجه أبي سعيد الخدري أبو داود قال : " فرام العلماء الجمع بين هذه الأحاديث واختلفوا في طريق الجمع فاختلفت لذلك مذاهبهم ; فمن ذهب إلى القول بظاهر حديث الأعرابي وحديث سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له " إنه يستقى من بئر بضاعة ، وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب والمحائض وعذرة الناس ، فقال النبي - عليه الصلاة والسلام - : " إن الماء لا ينجسه شيء أبي سعيد قال : إن حديثي غير معقولي المعنى ، وامتثال ما تضمناه عبادة ، لا لأن ذلك الماء ينجس . حتى إن الظاهرية أفرطت في ذلك فقالت : لو صب البول إنسان في ذلك الماء من قدح لما كره الغسل به والوضوء ، فجمع بينهما على هذا الوجه من قال هذا القول ، ومن كره الماء القليل تحله النجاسة اليسيرة جمع بين الأحاديث ، فإنه حمل حديثي أبي هريرة على [ ص: 26 ] الكراهية ، وحمل حديث الأعرابي وحديث أبي هريرة أبي سعيد على ظاهرهما ( أعني على الإجزاء ) . وأما الشافعي وأبو حنيفة ، فجمعا بين حديثي وحديث أبي هريرة بأن حملا حديثي أبي سعيد الخدري على الماء القليل ، وحديث أبي هريرة أبي سعيد على الماء الكثير .
وذهب إلى أن الحد في ذلك الذي يجمع الأحاديث هو ما ورد في حديث الشافعي عبد الله بن عمر عن أبيه ، خرجه أبو داود ، وصححه والترمذي قال : " أبو محمد بن حزم وأما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب ؟ فقال : إن كان الماء قلتين لم يحمل خبثا " أبو حنيفة فذهب إلى أن الحد في ذلك من جهة القياس ، وذلك أنه اعتبر سريان النجاسة في جميع الماء بسريان الحركة ، فإذا كان الماء بحيث يظن أن النجاسة لا يمكن فيها أن تسري في جميعه فالماء طاهر .
لكن من ذهب هذين المذهبين ، فحديث الأعرابي المشهور معارض له ولا بد ، فلذلك لجأت الشافعية إلى أن فرقت بين ورود الماء على النجاسة وورودها على الماء ، فقالوا : إن ورد عليها الماء كما في حديث الأعرابي لم ينجس ، وإن وردت النجاسة على الماء كما في حديث نجس . أبي هريرة
وقال جمهور الفقهاء : هذا تحكم . وله إذا تؤمل وجه من النظر ، وذلك أنهم إنما صاروا إلى الإجماع على أن النجاسة اليسيرة لا تؤثر في الماء الكثير إذا كان الماء الكثير بحيث يتوهم أن النجاسة لا تسري في جميع أجزائه ، وأنه يستحيل عينها عن الماء الكثير ، وإذا كان ذلك كذلك ، فلا يبعد أن قدرا ما من الماء لو حله قدر ما من النجاسة لسرت فيه ولكان نجسا ، فإذا ورد ذلك الماء على النجاسة جزءا فجزءا فمعلوم أنه تفنى عين تلك النجاسة ، وتذهب قبل فناء ذلك الماء ، وعلى هذا فيكون آخر جزء ورد من ذلك الماء قد طهر المحل ; لأن نسبته إلى ما ورد عليه مما بقي من النجاسة نسبة الماء الكثير إلى القليل من النجاسة ، ولذلك كان العلم يقع في هذه الحال بذهاب عين النجاسة ( أعني : في وقوع الجزء الأخير الطاهر على آخر جزء يبقى من عين النجاسة ) ولهذا أجمعوا على أن مقدار ما يتوضأ به يطهر قطرة البول الواقعة في الثوب أو البدن .
واختلفوا إذا وقعت القطرة من البول في ذلك القدر من الماء .
وأولى المذاهب عندي وأحسنها طريقة في الجمع ، هو أن يحمل حديث وما في معناه على الكراهية ، وحديث أبي هريرة أبي سعيد وأنس على الجواز ; لأن هذا التأويل يبقي مفهوم الأحاديث على ظاهرها ( أعني حديثي من أن المقصود بها تأثير النجاسة في الماء ) . وحد الكراهية عندي هو ما تعافه النفس وترى أنه ماء خبيث ، وذلك أن ما يعاف الإنسان شربه يجب أن يجتنب استعماله في القربة إلى الله تعالى ، وأن يعاف وروده على ظاهر بدنه كما يعاف وروده على داخله ، وأما من احتج بأنه لو كان قليل النجاسة ينجس قليل الماء لما كان الماء يطهر أحدا أبدا ، إذ كان يجب على هذا أن يكون المنفصل من الماء عن الشيء النجس المقصود تطهيره أبدا نجسا - فقول لا معنى له ، لما بيناه من أن نسبة آخر جزء يرد من الماء على آخر جزء يبقى من النجاسة في المحل نسبة الماء الكثير إلى النجاسة القليلة ، وإن كان يعجب به كثير من المتأخرين ، فإنا نعلم قطعا أن الماء الكثير يحيل النجاسة ويقلب عينها إلى الطهارة ، ولذلك أجمع العلماء على أن الماء الكثير لا تفسده النجاسة القليلة ، فإذا تابع [ ص: 27 ] الغاسل صب الماء على المكان النجس أو العضو النجس ، فيحيل الماء ضرورة عين النجاسة بكثرته ، ولا فرق بين الماء الكثير أن يرد على النجاسة الواحدة بعينها دفعة ، أو يرد عليها جزءا بعد جزء ، فإذا هؤلاء إنما احتجوا بموضع الإجماع على موضع الخلاف من حيث لم يشعروا بذلك ، والموضعان في غاية التباين . أبي هريرة
فهذا ما ظهر لنا في هذه المسألة من سبب اختلاف الناس فيها ، وترجيح أقوالهم فيها ، ولوددنا لو أن سلكنا في كل مسألة هذا المسلك ، لكن رأينا أن هذا يقتضي طولا ، وربما عاق الزمان عنه ، وأن الأحوط هو أن نؤم الغرض الأول الذي قصدناه ، فإن يسر الله تعالى فيه وكان لنا انفساح من العمر فسيتم هذا الغرض .