الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : وجوب الطهارة لحمل المصحف ومسه

                                                                                                                                            قال الشافعي رضي الله عنه : ولا يحمل المصحف ولا يمسه إلا طاهرا .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال الطهارة واجبة لحمل المصحف ومسه ، ولا يجوز أن يحمله من ليس بطاهر وقال داود بن علي : يجوز حمله بغير طهارة ، وبه قال حماد بن أبي [ ص: 144 ] سليمان والحكم بن عيينة استدلالا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر بسم الله الرحمن الرحيم قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم [ آل عمران : 64 ] . وقد علم من حالهم أنهم يمسونه ويتداولونه على غير طهارة ، قالوا : ولأن الطهارة لما لم تجب لقراءة القرآن فأولى ألا تجب بحمل ما كتب فيه القرآن ، قالوا : ولأن كلما لم يكن ستر العورة مستحقا فيه لم تكن الطهارة مستحقة فيه كأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وكتب الفقه .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله تعالى : إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون [ الواقعة : 79 ] . ومعلوم أن القرآن لا يصح مسه فعلم أن المراد به الكتاب الذي هو أقرب المذكورين إليه ولا يتوجه النهي إلى اللوح المحفوظ ؛ لأنه غير منزل ومسه غير ممكن ، وروي عن عبد الله بن أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران : " ألا تمس المصحف إلا وأنت طاهر " ، وروى حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تمس المصحف إلا طاهرا " ، فإن قيل أراد بقوله إلا طاهرا يعني : إلا مسلما .

                                                                                                                                            قيل : فقد روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " لا تمس المصحف إلا وأنت طاهر " فبطل هذا التأويل ، ولأنه إجماع الصحابة روى ذلك عن علي بن أبي طالب ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمرو ليس لهم في الصحابة مخالف ، ولأنه لما كان التطهير من النجاسة مستحقا كان التطهير من الحدث مستحقا فيه كالصلاة .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن كتابه إلى قيصر فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن قيصر كان مشركا والمشرك ممنوع من مسه بالاتفاق فلم يكن فيه دليل .

                                                                                                                                            والثاني : أنه كان كتابا قد تضمن مع القرآن دعاء إلى الإسلام ، فلم يكن القرآن بنفسه مقصودا فجاز تغليبا للمقصود فيه ، وأما الجواب عن قولهم : إن تلاوة القرآن أغلظ حكما فهو [ ص: 145 ] أنه غير مسلم ألا ترى أن الكافر لا يمنع من تلاوة القرآن ويمنع من مس المصحف فكذلك المحدث ، وأما الجواب عن ستر العورة فلأن العضو الذي يمسه به من جسده لا يتعدى كشف العورة إليه ويتعدى حكم الحدث إليه فافترقا .

                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت أن الطهارة مستحقة في حمل المصحف فلا يجوز للجنب والمحدث والحائض والنفساء حمله ، فأما الذي على بدنه نجاسة فلا يجوز أن يحمله أو يمسه بالعضو النجس من بدنه فأما بأعضائه التي لا نجاسة عليها ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز لأنه ممنوع من الصلاة كالمحدث .

                                                                                                                                            والثاني : وهو قول أبي إسحاق يجوز . والفرق بين المحدث والنجاسة أن الحدث يتعدى إلى سائر الأعضاء والنجاسة لا تتعدى إلى غير ما هي عليه من الأعضاء .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية