قال الماوردي : وهذا كما قال مجمع عليه بنص الكتاب والسنة . وفرضهما عند كافة الفقهاء الغسل دون المسح ، وذهبت غسل الرجلين في الوضوء الشيعة إلى أن الفرض فيهما المسح دون الغسل ، وجمع ابن جرير الطبري بين الأمرين فأوجب غسلهما ومسحهما . واستدل من قال بجواز المسح بقوله تعالى : وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين [ المائدة : 6 ] . بخفض الأرجل وكسر اللام عطفا على الرأس . قرأ بذلك أبو عمرو وابن كثير وحمزة ، وأحد الروايتين عن عاصم ، فوجب أن يكون فرض الرجلين المسح لعطفهما على الرأس الممسوح .
قال : ويؤيد ذلك أن أنس بن مالك سمع الحجاج يقول في خطبته : أمر الله بغسل الوجه واليدين ومسح الرأس وغسل الرجلين فقال : صدق الله وكذب الحجاج ، إنما أمر الله [ ص: 124 ] بمسح الرجلين ، فقال : وأرجلكم بالخفض ، وروي عن ابن عباس أنه قال : كتاب الله المسح ، ويأبى الناس إلا الغسل ، وقال : غسلتان ومسحتان .
فدل ما ذكرنا أن الآية توجب المسح .
وأما السنة فما روى ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخذ حفنة من ماء فضرب بها على رجله وفيها النعل فغسلها بها ثم فعل بالأخرى مثل ذلك قال : قلت وفي النعلين ؟ ، قال : وفي النعلين
وروى حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى كظامة قوم . وروى سباطة قوم فبال قائما ومسح على نعليه ، قالوا ومن طريق المعنى أنه عضو يسقط في التيمم مثله ، فوجب أن يكون فرضه المسح كالرأس ، قالوا ولأن الخف بدل عن الرجل فلما كان البدل ممسوحا وجب أن يكون المبدل ممسوحا .
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم [ المائدة : 6 ] .
إلى قوله : ( وأرجلكم ) بنصب الأرجل وفتح اللام منها عطفا على الوجه واليدين ، قرأ بذلك من الصحابة علي وابن مسعود .
ومن القراء ابن عامر ونافع والكسائي وإحدى الروايتين عن عاصم ، فاقتضى أن يكون فرض الرجلين الغسل لعطفهما بالنصب على الوجه المغسول ، فإن قيل إن كانت [ ص: 125 ] هذه القراءات المنصوبة تدل على الغسل فالقراءة المخفوضة تدل على المسح ، قيل : القراءة المنصوبة لا تدل إلا على الغسل ، والقراءة المخفوضة يمكن حملها على أحد وجهين :
أحدهما : على مسح الخفين فيكون اختلاف القراءتين على اختلاف المعنيين .
والثاني : أنه محمول على عطف المجاورة دون الحكم لأنه لما كان معطوفا على الرأس ، وكان الرأس مخفوضا على إعراب ما جاوره ، وهذا لسان العرب قال الله تعالى : كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف [ إبراهيم : 14 ] .
فخص العاصف وإن كان مرفوعا لأنه من صفة الريح لا من صفة اليوم ، والريح مرفوعة ، واليوم مخفوض لكن لما كان مجاورا لليوم أعطاه إعرابه وإن لم يكن صفة له ، وكقولهم : جحر ضب خرب ، وإنما هو خرب لأنه صفة للجحر المرفوع لا للضب المخفوض لكنه لما كان معطوفا على الضب أعطي إعرابه ، وكما قال الأعشى :
لقد كان في حول ثواء ثويته تقضي لبانات ويسأم سائم
فخفض الثواء لمجاورته الحول وإن كان مرفوعا .ثم يدل على ما ذكرناه من طريق السنة أن الناقلين لوضوء رسول الله هم عثمان وعلي وعبد الله بن زيد والمقدام بن معد يكرب فنقلوا جميعا حين وصفوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غسل رجليه ، وكان ما نقلوه من فعله بيانا لما اشتمل عليه في الوضوء من فرضه . [ ص: 126 ] وروى والربيع بنت معوذ عمارة بن أبي حفصة عن المغيرة بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يتوضأ وهو يغسل رجليه فقال : " بهذا أمرت " .
وروى مجاهد عن أبي ذر قال : . اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته ونحن نتوضأ فقال : " ويل للعراقيب من النار " فجعلنا ندلك أقدامنا ونغسلها غسلا
وروى القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " . ويل للأعقاب من النار ، ويل للأعقاب من النار ، ويل للأعقاب من النار " ، فما بقي أحد في المسجد شريف ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه ينظر إليهما
وروى أبو عبد الرحمن ، عن المستورد بن شداد قال : ، وكل هذه الأخبار دالة على الغسل دون المسح لأن المسح لا يحتاج إلى كل هذا . رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره
وروى العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أنه . قيل : يا رسول الله ، كيف [ ص: 127 ] يعرف من لم يأت بعد من أمتك فقال : أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل بهم ألا يعرف خيله ، قالوا : بلى يا رسول الله قال : فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء
فدل هذا الحديث على استحقاق الغسل ؛ لأن آثار التحجيل يكون من الغسل لا من المسح فأما المعنى فإنه عضو مفروض في أحد طرفي الطهارة فوجب أن يكون مغسولا كالوجه .
وأما الجواب عن استدلالهم بالآية فهو ما قدمناه دليلا ، واستعمالا .
وأما حديث أنس فقد روي عنه أنه قال : كتاب الله المسح وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الغسل فكان إنكاره على الحجاج أن الكتاب لم يدل على الغسل وإنما السنة دالة عليه فأما حديث ابن عباس فقد رويناه عنه بخلافه وأنه قرأ بالنصب ، ويحتمل قوله غسلتان ومسحتان يعني الوجه والذراعين يغسلان في الوضوء ويمسحان في التيمم .
وأما حديث علي فمحمول على أنه غسلهما في نعليه ، ألا ترى إلى ما روي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه أقرأ الحسن والحسين بالخفض قال : فناداني علي من الحجرة : بالفتحة بالفتحة ، وأما حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى كظامة قوم وروي سباطة قوم ؛ فالكظامة المطهرة والسباطة الفناء ، فبال قائما ومسح على نعليه فقد أنكرت عائشة هذا الحديث ومنعت أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بال قائما .
وقيل بل فعل ذلك لجرح كان في مابضه ، والمابض : هو عرق في باطن الساق فيجوز أن يكون مسح على نعليه من نجاسة وقعت عليهما ، لأن بالإجماع ، وأما قياسهم على التيمم فباطل بالجنب لأن الفرض في بدله الغسل وإن كان ساقطا في التيمم ، فأما قولهم : إن ما كان بدله ممسوحا كان مبدله ممسوحا فباطل بالوجه وهو التيمم ممسوح والتيمم بدل وفي الوضوء مغسول والوضوء مبدل والله أعلم . مسح النعلين لا يجزئ عن مسح [ ص: 128 ] الرجلين
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : والكعبان هما العظمتان الناتئان وهما مجتمع مفصل الساق والقدم وعليهما الغسل كالمرفقين .
قال الماوردي : وهذا صحيح ، الكعبان هما الناتئان بين الساق والقدم .
وحكي عن محمد بن الحسن أن الكعب موضع الشراك على ظهر القدم وهو الناتئ منه .
استشهادا بأن ذاك لغة أهل اليمن ويحكى عن أبي عبد الله الزبيري من أصحابنا أن الكعب في لغة العرب ما قاله محمد ، وإنما عدل عنه الشافعي بالشرع وأنكر أصحابنا ذلك فقالوا : بل الكعب ما وصفه الشافعي لغة وشرعا ؛ أما اللغة فمن وجهين : نقل واشتقاق . فأما النقل فهو محكي عن قريش ، ونزار ، كلها مضر وربيعة ، لا يختلف لسان جميعهم أن الكعب اسم للناتئ بين الساق والقدم وهم أولى أن يكون لسانهم معتبرا في الأحكام من أهل اليمن ، ولأن القرآن بلسانهم نزل .
وأما الاشتقاق فهو أن الكعب في لغة العرب كلها اسم لما استدار وعلا ولذلك قالوا : قد كعب ثدي الجارية إذا علا واستدار وجارية كعوب .
وسميت الكعبة كعبة لاستداراتها وعلوها وليس يتصل بالقدم ما يستحق هذا الاسم إلا ما وصفه الشافعي لعلوه واستدارته ، فهذا ما تقتضيه اللغة نقلا واشتقاقا ، وأما الشرع فمن وجهين نص واستدلال :
أما النص فحديث أبي سعيد الخدري : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " وقال صلى الله عليه وسلم أزرة المسلم إلى نصف الساق ولا حرج فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من الكعبين فهو في النار لجابر بن سليم : " " . فدل [ ص: 129 ] نص هذين الحديثين على أن الكعبين أسفل الساق لا ما قالوه من ظاهر القدم ، وأما الاستدلال بقوله تعالى : ارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين وأرجلكم إلى الكعبين [ المائدة : 6 ] . فلما ذكر الأرجل بلفظ الجمع وذكر الكعبين بلفظ التثنية ولم يذكره بلفظ الجمع كما ذكر في المرافق اقتضى أن تكون التثنية راجعة إلى كل رجل فيكون في كل رجل كعبان ولا يكون ذلك إلا فيما وصفه الشافعي من المستدير بين الساق والقدم وعلى ما قالوه يكون في كل رجل كعب واحد .