الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : ثم يمسح رأسه ثلاثا ، وأحب أن يتحرى جميع رأسه وصدغيه يبدأ بمقدم رأسه ثم يذهب بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه . قال الماوردي : وهذا كما قال مسح الرأس واجب بالكتاب والسنة والإجماع واختلفوا في قدر ما يجب مسحه منه على ثلاث مذاهب شتى .

                                                                                                                                            فمذهب الشافعي أن الواجب منه ما ينطلق اسم المسح عليه ثلاث شعرات فصاعدا .

                                                                                                                                            وقال مالك : الواجب مسح جميع الرأس ، فإن ترك أكثر من ثلاث شعرات عامدا لم يجزه ، وإن ترك أقل من الثلاث ناسيا أجزأه .

                                                                                                                                            وذهب المزني إلى مسح جميعه من غير تفصيل .

                                                                                                                                            وعن أبي حنيفة روايتان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الواجب مسح الناصية وهو ما بين النزعتين .

                                                                                                                                            والثانية : وهي المشهورة عنه وبها قال أبو يوسف : إن الواجب مسح ربعه بثلاثة أصابع ، فإن مسح الربع بأقل من ثلاث أصابع أو مسح بثلاث أصابع أقل من الربع لم يجزه ، فحد الممسوح والممسوح به . [ ص: 115 ] فأما مالك فاستدل بقوله تعالى : وامسحوا برءوسكم [ المائدة : 6 ] فاقتضى الظاهر أن يمسح جميع ما انطلق عليه اسم الرأس ، وبحديث عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى ما قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ، وبحديث المقدام بن معد يكرب قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فلما بلغ مسح رأسه وضع كفيه على مقدم رأسه فأمرهما حتى بلغ القفا ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه .

                                                                                                                                            ولأنه أحد الأعضاء الظاهرة فوجب أن يكون استيعابه بالتطهير واجبا كالوجه ؛ ولأن كل موضع كان محلا لفرض المسح تعلق به فرض المسح أصله البعض المتفق عليه .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله تعالى : وامسحوا برءوسكم [ المائدة : 6 ] ومنه دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن العرب لا تدخل في الكلام حرفا زائدا إلا بفائدة ، والباء الزائدة قد تدخل في كلامهم لأحد أمرين : إما للإلصاق في الموضع الذي لا يصح الكلام بحذفها ، ولا يتعدى الفعل إلى مفعوله إلا بها كقولهم مررت بزيد ، وكقوله تعالى : وليطوفوا بالبيت العتيق [ الحج : 29 ] . لما لم يصح أن يقولوا مررت زيدا ، وليطوفوا البيت كان دخول الباء للإلصاق ، ولتعدي الفعل إلى مفعوله . وإما للتبعيض في الموضع الذي يصح الكلام بحذفها ، وبتعدي الفعل إلى مفعوله بعدها ليكون لزيادتها فائدة .

                                                                                                                                            فلما حسن حذفها من قوله تعالى : وامسحوا برءوسكم [ المائدة : 6 ] لأنه لو قال : " وامسحوا رءوسكم " صلح ، دل على دخولها للتبعيض .

                                                                                                                                            والثاني : أن من عادة العرب في الإيجاز والاختصار إذا أرادوا ذكر كلمة اقتصروا على أول حرف منها اكتفاء به ، عن جميع الكلمة كما قيل في قوله تعالى : كهيعص أن الكاف من كافي ، والهاء من هادي ، وكما قال الشاعر :

                                                                                                                                            قلت لها قفي فقالت قاف

                                                                                                                                            . أي وقفت ، وكما قال الآخر :

                                                                                                                                            نادوهم أن ألجموا ألا تا     فقالوا جميعا كلهم ألا فا

                                                                                                                                            ، ومعناه : نادوهم أن ألجموا ألا تركبون ؟ قالوا جميعا ألا فاركبوا . [ ص: 116 ] وإذا كان هذا من كلامهم كانت الباء التي في قوله : وامسحوا برءوسكم [ المائدة : 6 ] مرادا بها بعض رءوسكم لأنها أول حرف من بعض .

                                                                                                                                            والدليل من طريق السنة رواية ابن سيرين ، عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته أو قال مقدم رأسه وروى أبو معقل ، عن أنس بن مالك أنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية ، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة .

                                                                                                                                            ولأن كل ما لو تركه ناسيا في الطهارة فلم يمنع من صحة الطهارة لم يكن من فروض الطهارة كمسح الأذنين .

                                                                                                                                            فأما الآية فقد ذكرنا وجهي دليلنا منها ، فأما حديث عبد الله بن زيد والمقدام بن معد يكرب فمحمول على الاستحباب بدليل ما رويناه من حديث المغيرة وأنس ، وأما قياسه فمنتقض بمسح الخفين ؛ لأن كل موضع منه محل لفرض المسح وليس مسح جميعه واجبا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية