الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإن وقعت ميتة في بئر فتغير من طعمها أو لونها أو رائحتها أخرجت الميتة ونزحت البئر حتى يذهب تغيرها فتطهر بذلك " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح ، وحكم ماء البئر فيما ينجس به ، ولا ينجس كحكم غيره من مياه المصانع ، والأواني .

                                                                                                                                            [ ص: 338 ] وقال أبو حنيفة ماء البئر مخالف لغيره من مياه المصانع والأواني وإن ماتت في البئر عصفورا وفأرة نزح من البئر عشرون دلوا وكان باقي مائها طاهرا ، وإن وقع ذنبها نزحت البئر كلها ، وإن مات فيها سنور ودجاجة نزح منها أربعون دلوا ، وكان باقي مائها طاهرا ، وإن ماتت فيها شاة نزح جميع مائها ، وكذا إن وقع فيها بول أو عذرة ، وكان من فرق بين ماء البئر وغيرها أن ماء البئر ينبع من تحتها فهو يدفع النجاسة إلى علوها ، وكأنه فرق بين الفأرة والسنور ، أن السنور يغوص في الماء أكثر من الفأرة فكان ما ينزح بموتها أكثر ، والشاة تغوص إلى قعر البئر ، فينزح جميع ما في البئر ، وهذا مذهب إن لم يعضده نص ، وليس فيه نص فهو أظهر فسادا من أن يقام على فساده دليل ، لأن الماء النجس لا يطهر بأخذ بعضه فيكون المأخوذ منه نجسا ، والمتروك طاهرا وكيف تميزت النجاسة حتى صار جميعها في المأخوذ ، ولم يبق في المتروك شيء منها ، وتميزت الطهارة في المتروك ، ولم يبق في المأخوذ شيء منهما ، وما انفصل بينه وبين من قلب ما قاله فجعل المأخوذ طاهرا ، والمتروك نجسا .

                                                                                                                                            فإن قال : لأن المأخوذ من أعلاه وما ينبع من ماء البئر يدفع النجاسة إلى أعلى .

                                                                                                                                            قيل : الدلو إذا نزل في البئر نزح جميع مائها ، ولم يترك طبقات الماء في البئر على حالها ، ثم كيف انتهى رفع النجاسة بما يقع من أسفلها إلى عشرين دلوا في أعلاها ، ولم يرتفع عنه ولم ينخفض منه ثم يقال له : لو جاز أن يكون ما نبع من أسفل الماء يرفع النجاسة إلى أعلاه ، أوجب أن يكون ما يصب عليه من أعلاه يحيط النجاسة إلى أسفله على قياس هذا القليل ، وأنتم لا تقولون به ، ثم يقال له : زعمت أن الفأرة لا تغوص في الماء بأكثر من عشرين دلوا من أين لك هذا ، ولم لا قلت مثله في ماء الغدير ، وما تقول إن شدت الفأرة بحجر حتى وصلت إلى قعر البئر ينبغي على قولك أن ينزح جميع مائها ولو شدت بخشبة حتى منعت من غوصها أن لا ينزح شيء منها ، وأنت لا تقول بهذين وتوجب نزح عشرين دلوا في الأحوال كلها ، ثم يقال له : ذنب الفأرة أقل غوصا في الماء من جميع الفأرة وأنت تقول في ذنبها وهو أحد أعضائها أنه ينزح منه ماء البئر كله ، وينزح من الفأرة مع ذنبها عشرون دلوا من جملته ، ثم يقال له : زعمت أنه لو سقط الدلو الأخير من العشرين إلى ماء البئر صار نجسا ، فإن عاد فنزح منها دلوا واحدا صار طاهرا فهل يتصور في المعقول أن الدلو النجس الذي سقط في الماء خرج جميعه في الدلو المستقى منه حتى تميز بعد امتزاجه به ، ولأجل ذلك قال الجاحظ : لم أر دلوا أعقل من دلو أبي حنيفة يعني أنه يميز بين الماء الطاهر والنجس ، والجاحظ غير معذور بمثل هذه الخلاعة في أبي حنيفة مع فضله وتقدمه في علمه لكن تطرق باضطراب المذهب وذهابه إلى الاسترسال بهذا القول المستهجن فإن قال أبو حنيفة : إنما قلت هذا : لأنه روي عن علي رضي الله عنه ، قيل قد روي عنه أنه أمر بنزح سبع أو ثمان ، وليست إحدى الروايتين في المصير إليها بأولى من الأخرى قال : إنه يجوز [ ص: 339 ] على أن يكون أمر بنزحها ليزول تغيرها أو تنظيفا لا واجبا فلم تركت السنة الثابتة والأصول المشتهرة ، لهذا الأثر المحتمل والرواية المختلفة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية