فصل : هل ؟ تحديد القلتين تقريب أم تحقيق
ثم إن أصحابنا من بعد الشافعي لما نأوا عن الحجاز وبعدوا في البلاد ، وغابت عنهم قرب الحجاز ، وجهل العوام تقادير القرب التي أخبرهم بها حد الماء ينجس من الماء ، ولا ينجس اضطروا إلى تقدير القرب بالأرطال ، ليصير ذلك مقدرا معلوما عند كافتهم كما اضطر الشافعي ، ومن عاصره عند عدم القلال ، في تقديرها بالقرب فاتفق رأيهم بعد أن اختبروا قرب الحجاز على أن قدروا كل قربة منها بمائة رطل بالعراقي ، فكان أول من قدر ذلك بالأرطال من أصحابنا إبراهيم بن جابر وأبو عبيد بن جربويه ثم ساعدهم سائر أصحابنا موافقة لاختيارهم فصارت القلتان المقدرة عند الشافعي بخمس قرب خمسمائة رطل بالعراقي عند جميع أصحابنا ، وإنما اختلفوا هل ذلك تقدير تقريب أو تقدير تحقيق ؟ على وجهين : أحدهما : وهو قول أبي العباس بن سريج أنه حد تقريب لا يتغير الحكم فيه بزيادة رطل أو رطلين ولا بنقصانه لأن تحديد القليل بالقرب احتياط وتحديد القرب بالأرطال استظهار فصار التحقيق فيه معوزا .
والوجه الثاني : وقد أشار إليه أبو إسحاق المروزي أنه حد تحقيق يتغير الحكم بزيادة اليسير ونقصانه : لأن الحد ما يتميز به المحدود في حكمه ، ولم يكن مبهما فيجهل ، وليس يمتنع أن يكون الاجتهاد في اعتبارها عهدنا من الأصول قد جعله محدودا على التحقيق .