قرأ علقمة ويحيى بن وثاب ( ردت ) بكسر الراء ، نقل حركة الدال المدغمة إلى الراء بعد توهم خلوها من الضمة ، وهي لغة لبني ضبة ، كما نقلت العرب في قيل وبيع ، وحكى والأعمش قطرب : النقل في الحرف الصحيح غير المدغم نحو : ضرب زيد ، سموا المشدود المربوط بجملته متاعا ، فلذلك حسن الفتح فيه ( وما نبغي ) " ما " فيه استفهامية ؛ أي : أي شيء نبغي ونطلب من الكرامة هذه [ ص: 324 ] أموالنا ردت إلينا ، قاله قتادة . وكانوا قالوا لأبيهم : قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة ، لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته ، وقال : يحتمل أن تكون ( ما ) نافية أي : ما بقي لنا ما نطلب ، ويحتمل أيضا أن تكون نافية من البغي ؛ أي : ما افترينا فكذبنا على هذا الملك ، ولا في وصف إجماله وإكرامه ، هذه البضاعة مردودة ، وهذا معنى قول الزجاج ما نبغي في القول ما تتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك والكرامة ، وقيل : معناه ما نريد منك بضاعة أخرى ، وقرأ الزمخشري عبد الله وأبو حيوة : ( ما تبغي ) بالتاء على خطاب يعقوب ، وروتها عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويحتمل " ما " في هذه القراءة الاستفهام والنفي كقراءة النون ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : ( ونمير ) بضم النون ، والجملة من قولهم ( هذه بضاعتنا ردت إلينا ) موضحة لقولهم : ( ما نبغي ) والجمل بعدها معطوفة عليها على تقدير : فنستظهر بها ونستعين بها ونمير أهلنا في رجوعنا إلى الملك ، ونحفظ أخانا فلا يصيبه شيء مما تخافه ، وإذا كان ما نبغي ما نتزيد وما نكذب ، جاز أن يكون ( ونمير ) معطوفا على ( ما نبغي ) أي : لا نبغي فيما نقول ، ونمير أهلنا ونفعل كيت وكيت ، وجاز أن يكون كلاما مبتدأ ، وكرروا حفظ الأخ مبالغة في الحض على إرساله ، ونزداد باستصحاب أخينا ، وسق بعير على أوساق بعيرنا ؛ لأنه إنما كان حمل لهم عشرة أبعرة ، ولم يحمل الحادي عشر لغيبة صاحبه ، والظاهر أن البعير هو من الإبل ، وقال مجاهد : كيل حمار ، قال : وبعض العرب تقول للحمار : بعير ، وهذا شاذ ، والظاهر أن قوله : ( ذلك كيل يسير ) من كلامهم لا من كلام يعقوب ، والإشارة بذلك الظاهر أنها إلى ( كيل بعير ) أي : يسير ، بمعنى قليل ، يحببنا إليه الملك ولا يضايقنا فيه ، أو يسير بمعنى سهل متيسر لا يتعاظمه . وقيل : يسير عليه أن يعطيه . وقال الحسن : وقد كان يوسف - عليه السلام - وعدهم أن يزيدهم حمل بعير بغير ثمن ، قال الزمخشري : أي ذلك مكيل قليل لا يكفينا ، يعني : ما يكال لهم ، فازدادوا إليه ما يكال لأخيهم ، ويجوز أن يكون من كلام يعقوب ؛ أي : حمل بعير واحد شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد ، كقوله : ( ذلك ليعلم ) ، انتهى . ويعني أن ظاهر الكلام أنه من كلامهم ، وهو من كلام يعقوب ، كما أن قوله : ( ذلك ليعلم ) ، ظاهره أنه من كلام امرأة العزيز ، وهو من كلام يوسف ، وهذا كله تحميل للفظ القرآن ما يبعد تحميله ، وفيه مخالفة الظاهر لغير دليل ، ولما كان يعقوب غير مختار لإرسال ابنه ، وألحوا عليه في ذلك ، علق إرساله بأخذ الموثق عليهم وهو الحلف بالله ، إذ به تؤكد العهود وتشدد ، و ( لتأتنني به ) جواب للحلف ؛ لأن معنى ( حتى تؤتون موثقا ) حتى تحلفوا لي لتأتنني به ، وقوله : ( إلا أن يحاط بكم ) لفظ عام لجميع وجوه الغلبة ، والمعنى : تعمكم الغلبة من جميع الجهات حتى لا يكون لكم حيلة ولا وجه تخلص ، وقال مجاهد : إلا أن تهلكوا ، وعنه أيضا : إلا أن تطيقوا ذلك ، وهذا الاستثناء من المفعول من أجله مراعى في قوله : ( لتأتنني ) وإن كان [ ص: 325 ] مثبتا معنى النفي ؛ لأن المعنى : لا تمتنعون من الإتيان به لشيء من الأشياء إلا لأن يحاط بكم ، ومثاله من المثبت في اللفظ ومعناه النفي ، قولهم : أنشدك الله إلا فعلت ؛ أي : ما أنشدك إلا الفعل ، ولا يجوز أن يكون مستثنى من الأحوال مقدرا بالمصدر الواقع حالا ، وإن كان صريح المصدر قد يقع حالا ، فيكون التقدير : لتأتنني به على كل حال إلا إحاطة بكم أي : محاطا بكم ؛ لأنهم نصوا على أن ( أن ) الناصبة للفعل لا تقع حالا وإن كانت مقدرة بالمصدر الذي قد يقع بنفسه حالا ، فإن جعلت أن والفعل واقعة موقع المصدر الواقع ظرف زمان ، ويكون التقدير : لتأتنني به في كل وقت إلا إحاطة بكم أي : إلا وقت إحاطة بكم ، قلت : منع ذلك ابن الأنباري فقال : ما معناه : يجوز خروجنا صياح الديك أي : وقت صياح الديك ، ولا يجوز خروجنا أن يصيح الديك ، ولا ما يصيح الديك ، وإن كانت " أن ، وما " مصدريتين ، وإنما يقع ظرفا المصدر المصرح بلفظه ، وأجاز ابن جني أن تقع " أن " ظرفا ، كما يقع صريح المصدر ، فأجاز في قول تأبط شرا :
وقالوا لها لا تنكحيه فإنه لأول فصل أن يلاقي مجمعا
وقول أبي ذؤيب الهذلي :وتالله ما إن شهل أم واحد بأوجد مني أن يهان صغيرها
أن يكون " أن تلاقي " تقديره : وقت لقائه الجمع ، وأن يكون " أن يهان " تقديره : وقت إهانة صغيرها ، فعلى ما أجازه ابن جني يجوز أن تخرج الآية ويبقى ( لتأتنني به ) على ظاهره من الإثبات ، ولا يقدر فيه معنى النفي ، وفي الكلام حذف تقديره : فأجابوه إلى ما طلبه ( فلما آتوه موثقهم ) قال يعقوب : ( الله على ما نقول ) من طلب الموثق وإعطائه ( وكيل ) رقيب مطلع ، ونهيه إياهم أن يدخلوا من باب واحد هو خشية العين ، وكانوا أحد عشر لرجل واحد ، أهل جمال وبسطة قاله : ابن عباس والضحاك وقتادة وغيرهم ، ، وفي الحديث : " والعين حق إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر ، وفي التعوذ ومن كل عين لامة " وخطب الزمخشري فقال : لأنهم كانوا ذوي بهاء وشارة حسنة ، وقد أشهرهم أهل مصر بالقربة عند الملك والكرامة الخاصة التي لم تكن لغيرهم فكانوا مظنة لطموح الأبصار إليهم من الوفود وأن يشار إليهم بالأصابع ويقال : هؤلاء أضياف الملك ، انظروا إليهم ما أحسنهم من فتيان وما أحقهم بالإكرام ، لأمر ما قربهم الملك وقربهم وفضلهم على الوافدين عليه ، فخاف لذلك أن يدخلوا كوكبة واحدة فيعانوا لجمالهم وجلالة أمرهم في الصدور يصبهم ما يسوءهم ، ولذلك لم يوصهم بالتفرق في المرة الأولى لأنهم كانوا مجهولين مغمورين بين الناس ، انتهى . ويظهر أن خوفه عليهم من العين في هذه الكرة بحسب أن محبوبه فيهم وهو بنيامين الذي كان يتسلى به عن شقيقه يوسف ، ولم يكن فيهم في الكرة الأولى ، فأهمل أمرهم ولم يحتفل بهم لسوء صنيعهم في يوسف ، وقيل : نهاهم خشية أن يستراب بهم لقول يوسف : أنتم جواسيس ، وقيل : طمع بافتراقهم أن يتسمعوا خبر يوسف ، ثم نفى عن نفسه أن يغني عنهم شيئا يعني : بوصاته ( إن الحكم إلا لله ) أي : هو الذي يحكم وحده وينفذ ما يريد ، فعليه وحده توكلت ، و ( من حيث أمرهم أبوهم ) أي : من أبواب متفرقة ، روي أنهم لما ودعوا أباهم قال لهم : بلغوا ملك مصر سلامي وقولوا له : إن أبانا يصلي عليك ، ويدعو لك ، ويشكر صنيعك معنا ، وفي كتاب أبي منصور المهراني : أنه خاطبه بكتاب قرئ على يوسف فبكى ، وجواب " لما " قوله : ( ما كان يغني عنهم من الله من شيء ) وفيه حجة لمن زعم أن ( لما ) حرف وجوب لوجوب لا ظرف زمان بمعنى حين ، إذ لو كانت ظرف زمان ما جاز أن تكون معمولة لما بعد ما النافية ، لا يجوز حين قام زيد ما قام عمرو ، ويجوز لما قام زيد ما قام عمرو ، فدل ذلك على أن " لما " حرف يترتب جوابه على ما بعده ، وقال ابن عطية : ويجوز أن [ ص: 326 ] يكون جواب " لما " محذوفا مقدرا ، ثم يخبر عن دخولهم أنه ما كان يغني ، ومعنى الجملة : لم يكن في دخولهم متفرقين دفع قدر الله الذي قضاه عليهم من تشريفهم وافتضاحهم بذلك ، وأخذ أخيهم بوجدان الصاع في رحله ، وتزايد مصيبته على أبيهم ، بل كان إربا ليعقوب قضاه وتطييبا لنفسه ، وقيل : معنى ( ما كان يغني عنهم من الله من شيء ) ما يرد عنهم قدرا لأنه لو قضى أن يصيبهم عين لأصابتهم متفرقين أو مجتمعين ، وإنما طمع يعقوب أن تصادف وصيته قدر السلامة ، فوصى وقضى بذلك حاجة نفسه في أن بقي يتنعم برجائه أن يصادف وصيته القدر في سلامتهم . ( وإنه لذو علم ) يعني لقوله : ( إن الحكم إلا لله ) وما بعده وعلمه بأن القدر لا يدفعه الحذر ، وهذا ثناء من الله على يعقوب - عليه السلام - . وقال قتادة : لعامل بما علمناه ، وقال سفيان : من لا يعمل لا يكون عالما ، ولفظة ( ذو علم ) لا تساعده على هذا التفسير وإن كان صحيحا في نفسه ، وقرأ الأعمش : ( مما علمناه ) .