القول في تأويل قوله تعالى : ( سبح اسم ربك الأعلى ( 1 ) الذي خلق فسوى ( 2 ) والذي قدر فهدى ( 3 ) والذي أخرج المرعى ( 4 ) فجعله غثاء أحوى ( 5 ) سنقرئك فلا تنسى ( 6 ) إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ( 7 ) ) .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( سبح اسم ربك الأعلى ) فقال بعضهم : معناه : عظم ربك الأعلى ، لا رب أعلى منه وأعظم ، وكان بعضهم إذا قرأ ذلك قال : سبحان ربي الأعلى .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر أنه كان يقرأ : ( سبح اسم ربك الأعلى ) سبحان ربي الأعلى ( الذي خلق فسوى ) قال : وهي في قراءة أبي بن كعب كذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : سفيان ، عن عن السدي ، عبد خير ، قال : سمعت عليا رضي الله عنه قرأ : ( سبح اسم ربك الأعلى ) فقال : سبحان ربي الأعلى .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أن أبي إسحاق الهمداني ، ابن عباس ، كان إذا قرأ ( سبح اسم ربك الأعلى ) يقول : سبحان ربي الأعلى ، وإذا قرأ ( لا أقسم بيوم القيامة ) فأتى على آخرها ( أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) ؟ يقول : سبحانك اللهم وبلى . [ ص: 368 ]
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة سبح اسم ربك الأعلى ) ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال : سبحان ربي الأعلى . (
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن خارجة ، عن داود ، عن زياد بن عبد الله ، قال : سمعت ابن عباس يقرأ في صلاة المغرب : ( سبح اسم ربك الأعلى ) سبحان ربي الأعلى .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : نزه يا محمد اسم ربك الأعلى ، أن تسمي به شيئا سواه ، ينهاه بذلك أن يفعل ما فعل من ذلك المشركون من تسميتهم آلهتهم بعضها اللات وبعضها العزى .
وقال غيرهم : بل معنى ذلك : نزه الله عما يقول فيه المشركون كما قال : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) وقالوا : معنى ذلك : سبح ربك الأعلى; قالوا : وليس الاسم معنيا .
وقال آخرون : نزه تسميتك يا محمد ربك الأعلى وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت له خاشع متذلل; قالوا : وإنما عني بالاسم : التسمية ، ولكن وضع الاسم مكان المصدر .
وقال آخرون : معنى قوله : ( سبح اسم ربك الأعلى ) : صل بذكر ربك يا محمد ، يعني بذلك : صل وأنت له ذاكر ، ومنه وجل خائف .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال : معناه : نزه اسم ربك أن تدعو به الآلهة والأوثان ، لما ذكرت من الأخبار ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن الصحابة أنهم كانوا إذا قرءوا ذلك قالوا : سبحان ربي الأعلى ، فبين بذلك أن معناه كان عندهم معلوما : عظم اسم ربك ونزهه .
وقوله : ( الذي خلق فسوى ) يقول : الذي خلق الأشياء فسوى خلقها ، وعدلها ، والتسوية التعديل .
وقوله : ( والذي قدر فهدى ) يقول تعالى ذكره : والذي قدر خلقه فهدى .
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عني بقوله : ( فهدى ) ، فقال بعضهم : هدى الإنسان لسبيل الخير والشر ، والبهائم للمراتع .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، [ ص: 369 ] قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( قدر فهدى ) قال : هدى الإنسان للشقوة والسعادة ، وهدى الأنعام لمراتعها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك ، هدى الذكور لمأتى الإناث . وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن الله عم بقوله : ( فهدى ) الخبر عن هدايته خلقه ، ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى ، وقد هداهم لسبيل الخير والشر ، وهدى الذكور لمأتى الإناث ، فالخبر على عمومه حتى يأتي خبر تقوم به الحجة ، دال على خصوصه . واجتمعت قراء الأمصار على تشديد الدال من قدر ، غير الكسائي فإنه خففها .
والصواب في ذلك التشديد ؛ لإجماع الحجة عليه .
وقوله : ( والذي أخرج المرعى ) يقول : والذي أخرج من الأرض مرعى الأنعام من صنوف النبات وأنواع الحشيش .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن مكرم ، قال ثنا الحفري ، قال ثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين ( أخرج المرعى ) قال : النبات .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( والذي أخرج المرعى ) الآية ، نبت كما رأيتم بين أصفر وأحمر وأبيض .
وقوله : ( فجعله غثاء أحوى ) يقول تعالى ذكره : فجعل ذلك المرعى غثاء ، وهو ما جف من النبات ويبس ، فطارت به الريح; وإنما عني به هاهنا أنه جعله هشيما يابسا متغيرا إلى الحوة ، وهي السواد من بعد البياض أو الخضرة من شدة اليبس .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : ( غثاء أحوى ) يقول : هشيما متغيرا
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، [ ص: 370 ] قوله : ( غثاء أحوى ) قال : غثاء السيل أحوى ، قال : أسود .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ( غثاء أحوى ) قال : يعود يبسا بعد خضرة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فجعله غثاء أحوى ) قال : كان بقلا ونباتا أخضر ، ثم هاج فيبس ، فصار غثاء أحوى تذهب به الرياح والسيول . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم ، وأن معنى الكلام : والذي أخرج المرعى أحوى ؛ أي : أخضر إلى السواد ، فجعله غثاء بعد ذلك ، ويعتل لقوله ذلك بقول ذي الرمة :
حواء قرحاء أشراطية وكفت فيها الذهاب وحفتها البراعيم
وهذا القول وإن كان غير مدفوع أن يكون ما اشتدت خضرته من النبات ، قد تسميه العرب أسود ، غير صواب عندي بخلافه تأويل أهل التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير إذا لم يكن له وجه مفهوم إلا بتقديمه عن موضعه ، أو تأخيره ، فأما وله في موضعه وجه صحيح فلا وجه لطلب الاحتيال لمعناه بالتقديم والتأخير .
وقوله : ( سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ) يقول تعالى ذكره : سنقرئك [ ص: 371 ] يا محمد هذا القرآن فلا تنساه ، إلا ما شاء الله .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( فلا تنسى إلا ما شاء الله ) فقال بعضهم : هذا إخبار من الله نبيه عليه الصلاة والسلام أنه يعلمه هذا القرآن ويحفظه عليه ، ونهى منه أن يعجل بقراءته كما قال جل ثناؤه : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه ) .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن; قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( سنقرئك فلا تنسى ) قال : كان يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى ، فقال قائلو هذه المقالة : معنى الاستثناء في هذا الموضع على النسيان ، ومعنى الكلام : فلا تنسى ، إلا ما شاء الله أن تنساه ، ولا تذكره ، قالوا : ذلك هو ما نسخه الله من القرآن ، فرفع حكمه وتلاوته .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( سنقرئك فلا تنسى ) كان صلى الله عليه وسلم لا ينسى شيئا ( إلا ما شاء الله ) .
وقال آخرون : معنى النسيان في هذا الموضع : الترك; وقالوا : معنى الكلام : سنقرئك يا محمد فلا تترك العمل بشيء منه ، إلا ما شاء الله أن تترك العمل به ، مما ننسخه .
وكان بعض أهل العربية يقول في ذلك : لم يشأ الله أن تنسى شيئا ، وهو كقوله : ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ولا يشاء . قال : وأنت قائل في الكلام : لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت ، وإلا أن أشاء أن أمنعك ، والنية أن لا تمنعه ، ولا تشاء شيئا . قال : وعلى هذا مجاري الأيمان ، يستثنى فيها ، ونية الحالف : اللمام .
والقول الذي هو أولى بالصواب عندي قول من قال : معنى ذلك : فلا تنسى إلا أن نشاء نحن أن ننسيكه بنسخه ورفعه .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ؛ لأن ذلك أظهر معانيه .
وقوله : ( إنه يعلم الجهر وما يخفى ) يقول تعالى ذكره : إن الله يعلم الجهر [ ص: 372 ] يا محمد من عملك ما أظهرته وأعلنته ( وما يخفى ) يقول : وما يخفى منه فلم تظهره مما كتمته ، يقول : هو يعلم جميع أعمالك سرها وعلانيتها ; يقول : فاحذره أن يطلع عليك وأنت عامل في حال من أحوالك بغير الذي أذن لك به .