قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أفالرب الذي هو دائم لا يبيد ولا يهلك ، قائم بحفظ أرزاق جميع الخلق ، متضمن لها ، عالم بهم وبما يكسبونه من الأعمال ، رقيب عليهم ، لا يعزب عنه شيء أينما كانوا ، كمن هو هالك بائد لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم شيئا ، ولا يدفع عن نفسه ولا عمن يعبده ضرا ، ولا يجلب إليهما نفعا؟ كلاهما سواء؟
وحذف الجواب في ذلك فلم يقل : وقد قيل : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) ككذا وكذا ، اكتفاء بعلم السامع بما ذكر عما ترك ذكره . وذلك أنه لما قال جل ثناؤه : ( ( وجعلوا لله شركاء ) ، علم أن معنى الكلام : كشركائهم التي اتخذوها آلهة . كما قال الشاعر :
تخيري خيرت أم عال بين قصير شبره تنبال أذاك أم منخرق السربال
ولا يزال آخر الليالي
متلف مال ومفيد مال
ولم يقل : وقد قال : "شبره تنبال" وبين كذا وكذا ، اكتفاء منه بقوله : "أذاك أم منخرق السربال" ودلالة الخبر عن المنخرق السربال على مراده في ذلك .وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
20440 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد [ ص: 464 ] ، عن قتادة ، قوله : ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) ، ذلكم ربكم تبارك وتعالى ، قائم على بني آدم بأرزاقهم وآجالهم ، وحفظ عليهم والله أعمالهم .
20441 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) ، قال : الله قائم على كل نفس .
20442 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) ، يعني بذلك نفسه ، يقول : هو معكم أينما كنتم ، فلا يعمل عامل إلا والله حاضره . ويقال : هم الملائكة الذين وكلوا ببني آدم .
20443 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن : ( ابن جريج أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) ، وعلى رزقهم وعلى طعامهم ، فأنا على ذلك قائم ، وهم عبيدي ، ثم جعلوا لي شركاء .
20444 - حدثت عن الحسين بن فرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) ، فهو الله قائم على كل نفس بر وفاجر ، يرزقهم ويكلؤهم ، ثم يشرك به منهم من أشرك .
[ ص: 365 ] وقوله : وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول ) ، يقول تعالى ذكره : أنا القائم بأرزاق هؤلاء المشركين ، والمدبر أمورهم ، والحافظ عليهم أعمالهم ، وجعلوا لي شركاء من خلقي يعبدونها دوني ، قل لهم يا ( محمد : سموا هؤلاء الذين أشركتموهم في عبادة الله ، فإنهم إن قالوا : آلهة . فقد كذبوا؛ لأنه لا إله إلا الواحد القهار لا شريك له ( أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض ) ، يقول : أتخبرونه بأن في الأرض إلها ، ولا إله غيره في الأرض ولا في السماء؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
20445 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وجعلوا لله شركاء قل سموهم ) ، ولو سموهم آلهة لكذبوا وقالوا في ذلك غير الحق؛ لأن الله واحد ليس له شريك . قال الله : ( أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول ) يقول : لا يعلم الله في الأرض إلها غيره .
20446 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( وجعلوا لله شركاء قل سموهم ) ، والله خلقهم .
20447 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن : ( ابن جريج وجعلوا لله شركاء قل سموهم ) ، ولو سموهم كذبوا وقالوا في ذلك ما لا يعلم الله ، ما من إله غير الله ، فذلك قوله : ( أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض ) .
[ ص: 466 ] وقوله : ( أم بظاهر من القول ) ، مسموع ، وهو في الحقيقة باطل لا صحة له .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أنهم قالوا : ( أم بظاهر ) ، معناه : أم بباطل ، فأتوا بالمعنى الذي تدل عليه الكلمة دون البيان عن حقيقة تأويلها .
ذكر من قال ذلك :
20448 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( بظاهر من القول ) ، بظن .
20449 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
20450 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ، عن ابن جريج قتادة قوله : ( أم بظاهر من القول ) ، والظاهر من القول : هو الباطل .
20451 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( أم بظاهر من القول ) ، يقول : أم بباطل من القول وكذب ، ولو قالوا قالوا الباطل والكذب .
وقوله : ( بل زين للذين كفروا مكرهم ) ، يقول تعالى ذكره : ما لله من شريك في السماوات ولا في الأرض ، ولكن زين للمشركين الذي يدعون من دونه إلها ، مكرهم ، وذلك افتراؤهم وكذبهم على الله .
[ ص: 467 ] وكان مجاهد يقول : معنى "المكر" ههنا : القول ، كأنه قال : يعني قولهم بالشرك بالله .
20452 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( بل زين للذين كفروا مكرهم ) ، قال : قولهم .
20453 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وأما قوله : ( وصدوا عن السبيل ) ، فإن القرأة اختلفت في قراءته .
فقرأته عامة قرأة الكوفيين : ( وصدوا عن السبيل ) ، بضم "الصاد" بمعنى : وصدهم الله عن سبيله لكفرهم به ، ثم جعلت "الصاد" مضمومة إذ لم يسم فاعله .
وأما عامة قرأة الحجاز والبصرة ، فقرأوه بفتح "الصاد" على معنى أن المشركين هم الذين صدوا الناس عن سبيل الله .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القرأة ، متقاربتا المعنى ، وذلك أن المشركين بالله كانوا مصدودين عن الإيمان به ، وهم مع ذلك كانوا يصدون غيرهم ، كما وصفهم الله به بقوله : ( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ) . [ الأنفال : 36 ]
[ ص: 468 ] وقوله : ( ومن يضلل الله فما له من هاد ) ، يقول تعالى ذكره : ومن أضله الله عن إصابة الحق والهدى بخذلانه إياه ، فما له أحد يهديه لإصابتهما؛ لأن ذلك لا ينال إلا بتوفيق الله ومعونته ، وذلك بيد الله وإليه دون كل أحد سواه .