قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : ذر هؤلاء الذين اتخذوا دين الله وطاعتهم إياه لعبا ولهوا ، فجعلوا حظوظهم من طاعتهم إياه اللعب بآياته ، واللهو والاستهزاء بها إذا سمعوها وتليت عليهم ، فأعرض عنهم ، فإني لهم بالمرصاد ، وإني لهم من وراء الانتقام منهم والعقوبة لهم على ما يفعلون ، وعلى اغترارهم بزينة الحياة الدنيا ، ونسيانهم المعاد إلى الله - تعالى ذكره - والمصير إليه بعد الممات ، كالذي : -
13401 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ) ، قال : كقوله : ( ذرني ومن خلقت وحيدا ) ، [ سورة المدثر : 11 ] .
13402 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله . [ ص: 442 ]
وقد نسخ الله - تعالى ذكره - هذه الآية بقوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، [ سورة التوبة : 5 ] . وكذلك قال عدد من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
13403 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج بن المنهال قال : حدثنا همام بن يحيى ، عن قتادة : " وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا " ثم أنزل في " سورة براءة " فأمر بقتالهم .
13404 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا قال : قرأت على عبدة بن سليمان ابن أبي عروبة فقال : هكذا سمعته من قتادة : " وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا " ثم أنزل الله - تعالى ذكره - " براءة " وأمر بقتالهم فقال : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، [ سورة التوبة : 5 ] .
وأما قوله : " وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت " فإنه يعني به : وذكر ، يا محمد ، بهذا القرآن هؤلاء المولين عنك وعنه " أن تبسل نفس " بمعنى : أن لا تبسل ، كما قال : يبين الله لكم أن تضلوا ، [ سورة النساء : 176 ] ، بمعنى : أن لا تضلوا وإنما معنى الكلام : وذكرهم به ليؤمنوا ويتبعوا ما جاءهم من عند الله من الحق ، فلا تبسل أنفسهم بما كسبت من الأوزار ولكن حذفت " لا " لدلالة الكلام عليها .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " أن تبسل نفس " .
فقال بعضهم : معنى ذلك : أن تسلم . [ ص: 443 ]
ذكر من قال ذلك :
13405 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا قال : حدثنا يحيى بن واضح الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة قوله : " أن تبسل نفس بما كسبت " قال : تسلم .
13406 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : " أن تبسل نفس " قال : أن تسلم .
13407 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن مثله .
13408 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله - تعالى ذكره - : " أن تبسل " قال : تسلم .
13409 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " أن تبسل نفس " قال : تسلم .
13410 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد : أولئك الذين أبسلوا ، أسلموا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : تحبس .
ذكر من قال ذلك :
13411 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : " أن تبسل نفس " قال : تؤخذ فتحبس .
13412 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة مثله .
13413 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في [ ص: 444 ] قوله : " أن تبسل نفس بما كسبت " أن تؤخذ نفس بما كسبت .
وقال آخرون : معناه : تفضح .
ذكر من قال ذلك :
13414 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت " يقول : تفضح .
وقال آخرون : معناه : أن تجزى .
ذكر من قال ذلك :
13415 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا قال : حدثنا يحيى بن واضح الحسين بن واقد قال قال الكلبي : " أن تبسل " أن تجزى .
وأصل " الإبسال " التحريم ، يقال منه : " أبسلت المكان " إذا حرمته فلم يقرب ، ومنه قول الشاعر :
بكرت تلومك بعد وهن في الندى ، بسل عليك ملامتي وعتابي
[ ص: 445 ]أي : حرام [ عليك ملامتي وعتابي ] . ومنه قولهم : " أسد باسل " ويراد به : لا يقربه شيء ، فكأنه قد حرم نفسه ، ثم يجعل ذلك صفة لكل شديد يتحامى لشدته . ويقال : " أعط الراقي بسلته " يراد بذلك : أجرته ، " وشراب بسيل " بمعنى متروك . وكذلك " المبسل بالجريرة " وهو المرتهن بها ، قيل له : " مبسل " لأنه محرم من كل شيء إلا مما رهن فيه وأسلم به ، ومنه قول عوف بن الأحوص الكلابي :
وإبسالي بني بغير جرم بعوناه ولا بدم مراق
وقال الشنفرى :
هنالك لا أرجو حياة تسرني سمير الليالي مبسلا بالجرائر
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذا : وذكر بالقرآن هؤلاء الذين يخوضون في آياتنا وغيرهم ممن سلك سبيلهم من المشركين ، كيلا تبسل نفس بذنوبها وكفرها بربها ، وترتهن فتغلق بما كسبت من إجرامها في عذاب الله " ليس لها من دون الله " يقول : ليس لها ، حين تسلم بذنوبها فترتهن بما كسبت من آثامها ، أحد ينصرها فينقذها من الله الذي جازاها بذنوبها جزاءها " ولا شفيع " يشفع لها ، لوسيلة له عنده .