قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : " ولو ترى " يا محمد ، هؤلاء العادلين بربهم الأصنام والأوثان ، الجاحدين نبوتك ، الذين وصفت لك صفتهم " إذ وقفوا " يقول : إذ حبسوا " على النار " يعني : في النار - فوضعت " على " موضع " في " كما قال : واتبعوا ما تتلوالشياطين على ملك سليمان [ سورة البقرة : 102 ] [ ص: 317 ] ، بمعنى في ملك سليمان .
وقيل : " ولو ترى إذ وقفوا " ومعناه : إذا وقفوا لما وصفنا قبل فيما مضى : أن العرب قد تضع " إذ " مكان " إذا " و " إذا " مكان " إذ " وإن كان حظ " إذ " أن تصاحب من الأخبار ما قد وجد فقضي ، وحظ " إذا " أن تصاحب من الأخبار ما لم يوجد ، ولكن ذلك كما قال الراجز ، وهو أبو النجم :
مد لنا في عمره رب طها ثم جزاه الله عنا إذ جزى
جنات عدن في العلالي العلى
فقال : " ثم جزاه الله عنا إذ جزى " فوضع " إذ " مكان " إذا " .
وقيل : " وقفوا " ولم يقل : " أوقفوا " لأن ذلك هو الفصيح من كلام العرب . يقال : " وقفت الدابة وغيرها " بغير ألف ، إذا حبستها . وكذلك : " وقفت الأرض " إذا جعلتها صدقة حبيسا ، بغير ألف ، وقد : -
13179 - حدثني الحارث ، عن أبي عبيد قال : أخبرني اليزيدي كلاهما ، عن والأصمعي ، أبي عمرو قال : ما سمعت أحدا من العرب يقول : " أوقفت الشيء " بالألف . قال : إلا أني لو رأيت رجلا بمكان فقلت : " ما أوقفك هاهنا ؟ " بالألف ، لرأيته حسنا . [ ص: 318 ]
" فقالوا يا ليتنا نرد " يقول : فقال هؤلاء المشركون بربهم ، إذ حبسوا في النار : " يا ليتنا نرد " إلى الدنيا حتى نتوب ونراجع طاعة الله " ولا نكذب بآيات ربنا " يقول : ولا نكذب بحجج ربنا ولا نجحدها " ونكون من المؤمنين " يقول : ونكون من المصدقين بالله وحججه ورسله ، متبعي أمره ونهيه .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة والعراقيين : ( يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ) ، بمعنى : يا ليتنا نرد ، ولسنا نكذب بآيات ربنا ، ولكنا نكون من المؤمنين .
وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفة : يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ، بمعنى : يا ليتنا نرد ، وأن لا نكذب بآيات ربنا ، ونكون من المؤمنين . وتأولوا في ذلك شيئا : -
13180 - حدثنيه أحمد بن يوسف قال : حدثنا قال : حدثنا القاسم بن سلام حجاج ، عن هارون قال : في حرف ابن مسعود : ( يا ليتنا نرد فلا نكذب ) بالفاء .
وذكر عن بعض قرأة أهل الشام ، أنه قرأ ذلك : ( يا ليتنا نرد ولا نكذب ) بالرفع ( ونكون ) بالنصب ، كأنه وجه تأويله إلى أنهم تمنوا الرد ، وأن يكونوا من المؤمنين ، وأخبروا أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردوا إلى الدنيا .
واختلف أهل العربية في معنى ذلك منصوبا ومرفوعا .
فقال بعض نحويي البصرة : " ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين " نصب ، لأنه جواب للتمني ، وما بعد " الواو " كما بعد " الفاء " . قال : وإن شئت رفعت وجعلته على غير التمني ، كأنهم قالوا : ولا نكذب والله بآيات ربنا ، ونكون [ ص: 319 ] والله من المؤمنين . هذا إذا كان على ذا الوجه ، كان منقطعا من الأول . قال : والرفع وجه الكلام ، لأنه إذا نصب جعلها " واو " عطف . فإذا جعلها " واو " عطف ، فكأنهم قد تمنوا أن لا يكذبوا ، وأن يكونوا من المؤمنين . قال : وهذا والله أعلم ، لا يكون ، لأنهم لم يتمنوا هذا ، إنما تمنوا الرد ، وأخبروا أنهم لا يكذبون ، ويكونون من المؤمنين .
وكان بعض نحويي الكوفة يقول : لو نصب " نكذب " و " نكون " على الجواب بالواو ، لكان صوابا . قال : والعرب تجيب ب " الواو " و " ثم " كما تجيب بالفاء . يقولون : " ليت لي مالا فأعطيك " " وليت لي مالا وأعطيك " و " ثم أعطيك " . قال : وقد تكون نصبا على الصرف ، كقولك : " لا يسعني شيء ويعجز عنك .
وقال آخر منهم : لا أحب النصب في هذا ، لأنه ليس بتمن منهم ، إنما هو خبر ، أخبروا به عن أنفسهم . ألا ترى أن الله - تعالى ذكره - قد كذبهم فقال : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ؟ وإنما يكون التكذيب للخبر لا للتمني .
وكان بعضهم ينكر أن يكون الجواب " بالواو " وبحرف غير " الفاء " . وكان يقول : إنما " الواو " موضع حال ، لا يسعني شيء ويضيق عنك " أي : وهو يضيق عنك . قال : وكذلك الصرف في جميع العربية . قال : وأما " الفاء " فجواب جزاء : " ما قمت فنأتيك " أي : لو قمت لأتيناك . قال : فهذا حكم الصرف و " الفاء " . قال : وأما قوله : " ولا نكذب " و " نكون " فإنما جاز ، لأنهم قالوا : " يا ليتنا نرد " في غير الحال التي وقفنا فيها على النار . فكان وقفهم في تلك ، [ ص: 320 ] فتمنوا أن لا يكونوا وقفوا في تلك الحال .
قال أبو جعفر : وكأن معنى صاحب هذه المقالة في قوله هذا : ولو ترى إذ وقفوا على النار ، فقالوا : قد وقفنا عليها مكذبين بآيات ربنا كفارا ، فيا ليتنا نرد إليها فنوقف عليها غير مكذبين بآيات ربنا ولا كفارا .
وهذا تأويل يدفعه ظاهر التنزيل ، وذلك قول الله - تعالى ذكره - : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ، فأخبر الله تعالى أنهم في قيلهم ذلك كذبة ، والتكذيب لا يقع في التمني . ولكن صاحب هذه المقالة أظن به أنه لم يتدبر التأويل ، ولزم سنن العربية .
قال أبو جعفر : والقراءة التي لا أختار غيرها في ذلك : ( يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ) بالرفع في كليهما ، بمعنى : يا ليتنا نرد ، ولسنا نكذب بآيات ربنا إن رددنا ، ولكنا نكون من المؤمنين على وجه الخبر منهم عما يفعلون إن هم ردوا إلى الدنيا ، لا على التمني منهم أن لا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين . لأن الله - تعالى ذكره - قد أخبر عنهم أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، وأنهم كذبة في قيلهم ذلك . ولو كان قيلهم ذلك على وجه التمني ، لاستحال تكذيبهم فيه ، لأن التمني لا يكذب ، وإنما يكون التصديق والتكذيب في الأخبار .
وأما النصب في ذلك ، فإني أظن بقارئه أنه توخى تأويل قراءة عبد الله التي ذكرناها عنه ، وذلك قراءته ذلك : ( يا ليتنا نرد فلا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ) ، على وجه جواب التمني بالفاء . وهو إذا قرئ بالفاء [ ص: 321 ] كذلك ، لا شك في صحة إعرابه . ومعناه في ذلك : أن تأويله إذا قرئ كذلك : لو أنا رددنا إلى الدنيا ما كذبنا بآيات ربنا ، ولكنا من المؤمنين . فإن يكن الذي حكى من حكى عن العرب من السماع منهم الجواب بالواو ، و " ثم " كهيئة الجواب بالفاء ، صحيحا ، فلا شك في صحة قراءة من قرأ ذلك : يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون نصبا على جواب التمني بالواو ، على تأويل قراءة عبد الله ذلك بالفاء . وإلا فإن القراءة بذلك بعيدة المعنى من تأويل التنزيل . ولست أعلم سماع ذلك من العرب صحيحا ، بل المعروف من كلامها : الجواب بالفاء ، والصرف بالواو .