قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم ممن ينتحل التصديق بكتب الله : " لم تصدون عن سبيل الله " ، يقول : لم تضلون عن طريق الله ومحجته التي شرعها لأنبيائه وأوليائه وأهل الإيمان " من آمن " ، يقول : من صدق بالله ورسوله وما جاء به من عند الله " تبغونها عوجا " ، يعني : تبغون لها عوجا .
"والهاء والألف " اللتان في قوله : "تبغونها " عائدتان على "السبيل " ، وأنثها لتأنيث "السبيل " .
ومعنى قوله : "تبغون لها عوجا " ، من قول الشاعر ، وهو سحيم عبد بني الحسحاس
بغاك ، وما تبغيه حتى وجدته كأنك قد واعدته أمس موعدا
يعني : طلبك وما تطلبه . يقال : "ابغني كذا " ، يراد : ابتغه لي . فإذا أرادوا أعني على طلبه وابتغه معي قالوا : "أبغني " بفتح الألف . وكذلك يقال : "احلبني " ، بمعنى : اكفني الحلب - "وأحلبني " أعني عليه . وكذلك جميع ما ورد من هذا النوع ، فعلى هذا .
وأما "العوج " فهو الأود والميل . وإنما يعني بذلك : الضلال عن الهدى . [ ص: 54 ]
يقول جل ثناؤه : لم تصدون عن دين الله من صدق الله ورسوله تبغون دين الله اعوجاجا عن سننه واستقامته ؟
وخرج الكلام على "السبيل " ، والمعنى لأهله . كأن المعنى : تبغون لأهل دين الله ، ولمن هو على سبيل الحق ، عوجا يقول : ضلالا عن الحق ، وزيغا عن الاستقامة على الهدى والمحجة .
"والعوج " بكسر أوله : الأود في الدين والكلام . "والعوج " بفتح أوله : الميل في الحائط والقناة وكل شيء منتصب قائم .
وأما قوله : " وأنتم شهداء " . فإنه يعني : شهداء على أن الذي تصدون عنه من السبيل حق ، تعلمونه وتجدونه في كتبكم " وما الله بغافل عما تعملون " ، يقول : ليس الله بغافل عن أعمالكم التي تعملونها مما لا يرضاه لعباده وغير ذلك من أعمالكم ، حتى يعاجلكم بالعقوبة عليها معجلة ، أو يؤخر ذلك لكم حتى تلقوه فيجازيكم عليها .
وقد ذكر أن هاتين الآيتين من قوله : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله " والآيات بعدهما إلى قوله : " وأولئك لهم عذاب عظيم " ، نزلت في رجل من اليهود حاول الإغراء بين الحيين من الأوس والخزرج بعد الإسلام ، ليراجعوا ما كانوا عليه في جاهليتهم من العداوة والبغضاء . فعنفه الله بفعله ذلك ، وقبح له ما فعل ووبخه عليه ، ووعظ أيضا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف ، وأمرهم بالاجتماع والائتلاف .
ذكر الرواية بذلك : [ ص: 55 ]
7524 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني الثقة ، عن قال : زيد بن أسلم ، مر شأس بن قيس وكان شيخا قد عسا في الجاهلية ، عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج ، في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه . فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية ، فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد! لا والله ما لنا معهم ، إذا اجتمع ملأهم بها ، من قرار! فأمر فتى شابا من يهود وكان معه ، فقال : اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، وذكرهم يوم بعاث وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار . وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ، ففعل . فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا ، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب : أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس - وجبار بن صخر ، أحد بني سلمة من الخزرج . فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددناها الآن جذعة! وغضب الفريقان ، وقالوا : قد فعلنا ، السلاح السلاح!! موعدكم الظاهرة . والظاهرة : الحرة . فخرجوا إليها . وتحاوز الناس . فانضمت الأوس بعضها إلى بعض ، [ ص: 56 ] والخزرج بعضها إلى بعض ، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم ، فقال : "يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألف به بينكم ، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا ؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، وكيد من عدوهم ، فألقوا السلاح من أيديهم ، وبكوا ، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس وما صنع . فأنزل الله في شأس بن قيس وما صنع : " قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا " الآية . وأنزل الله عز وجل في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأس بن قيس من أمر الجاهلية : " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين " إلى قوله : " وأولئك لهم عذاب عظيم " . [ ص: 57 ]
وقيل : إنه عنى بقوله : " قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله " ، جماعة يهود بني إسرائيل الذين كانوا بين أظهر مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام نزلت هذه الآيات ، والنصارى وأن صدهم عن سبيل الله كان بإخبارهم من سألهم عن أمر نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم : هل يجدون ذكره في كتبهم ؟ . أنهم لا يجدون نعته في كتبهم .
ذكر من قال ذلك :
7525 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : " السدي قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا " ، كانوا إذا سألهم أحد : هل تجدون محمدا ؟ قالوا : لا! فصدوا عنه الناس ، وبغوا محمدا عوجا : هلاكا .
7526 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله " ، يقول : لم تصدون عن الإسلام وعن نبي الله ، من آمن بالله ، وأنتم شهداء فيما تقرأون من كتاب الله : أن محمدا رسول الله ، وأن الإسلام دين الله الذي لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل .
7527 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، نحوه .
7528 - حدثنا محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله " ، قال : هم اليهود والنصارى ، نهاهم أن يصدوا المسلمين عن سبيل الله ، ويريدون أن يعدلوا الناس إلى الضلالة .
قال أبو جعفر : فتأويل الآية على ما قاله : يا معشر السدي اليهود ، لم [ ص: 58 ] تصدون عن محمد ، وتمنعون من اتباعه المؤمنين به ، بكتمانكم صفته التي تجدونها في كتبكم ؟ . و"محمد " على هذا القول : هو "السبيل " ، " تبغونها عوجا " ، تبغون محمدا هلاكا . وأما سائر الروايات غيره والأقوال في ذلك ، فإنه نحو التأويل الذي بيناه قبل : من أن معنى "السبيل " التي ذكرها في هذا الموضع : الإسلام ، وما جاء به محمد من الحق من عند الله .