وأيضا فالله تعالى إنما دعا الناس إلى بيته على لسان الخليل، قال: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق . فجعل الآتين إلى بيته نوعين: رجالا وركبانا، وليس فيهم طائر ولا محمول في الهواء، فدل على أن هذا القسم الثالث ليسوا ممن أجاب دعوة ربهم، ولهذا لا يلبون.
ومنهم من يحمله الشيطان، ويمنعه أن يرى شيئا، فلا يحس بنفسه إلا بعرفة أو بغيرها من الأماكن التي يحمله إليها. وقد حدثني غير واحد من الثقات عن الشيخ إبراهيم الجعبري أنه قال: خرجت مرة، فرأيت بالكسوة - أو قال بغيرها - رجالا ممن يطير في الهواء، فيذهب إلى مكة، فقالوا: لا تذهب معنا؟ فقلت لهم: لا، فإن هذا الذي تفعلونه لا يسقط الفرض عنكم، ولا يتقبله الله حتى تحجوا كما أمر الله ورسوله، فيحصل لكم في طاعة الله من التعب وغيره ما يأجركم الله عليه، وأما هذا الحج فلا فائدة فيه. فقالوا: نحن نقبل منك ونحج معك على السنة. فلما حجوا قالوا: جزاك الله خيرا، فإنا في هذه الحجة ذقنا طعم العبادة لله وحلاوة الحج.
ومن هؤلاء المحمولين الذي تحملهم الجن إلى مكة من يذهب به قبل الحج، فيحرم من الميقات، ويحج حج المسلمين. ولكن هذا محروم، فوت نفسه فضل السير إلى المواقيت راكبا أو ماشيا، فلم [ ص: 212 ] يكن له أجر الحجاج. ومن هذا الباب ما يحكى عن بعض المشايخ - معروف أو غيره - أنه سار في الهواء إلى مكة، فطاف بالبيت، ثم ذهب ليشرب من زمزم، فوقع فشج. فإن هذا وإن كان أهون من الذي حمل يوم عرفة إلى عرفة، كما حمل جماعة كثيرة من أعصار وأمصار متفرقة. وأقدم من حكي هذا عنه حبيب العجمي. فأما الصحابة فكانوا أجل قدرا من أن يطمع الشيطان في أن يضلهم ويصرفهم عن سنة الرسول وشريعته، كما صرف من كان قليل العلم والمعرفة بالسنة والشريعة من العباد والزهاد وغيرهم.
والذين يحملون إلى عرفات أو غيرها، منهم من لا يعرف أن ذلك من الجن، ومنهم من يعرف ذلك، ويظن هؤلاء وهؤلاء أن ذلك كرامة من كرامات الأولياء، وأن هذا العمل مما يحبه الله ويرضاه ويثيب صاحبه عليه. ولو علموا أن ذلك ليس بواجب ولا مستحب في الشريعة، وأنه من إضلال الشياطين لهم، لم يفعلوه لما عندهم من الدين والخير وحسن القصد، رحمة الله عليهم. والمجتهد المخطئ يغفر له خطؤه، ويثاب على حسن قصده وما عمله من عمل مأمور به، والله أعلم. لكن مثل هذا هو مما يعذر فاعله عليه، ليس هو مما يستنكر عليه، بخلاف ما فعله من لم يعرف، فإنه يظن أن هذا من أعظم القربات. ولو علم أن مثل هذا الحمل إلى الأمكنة البعيدة يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين أعظم مما يحصل للمؤمنين، لعلم أنه من عمل الشيطان، لا مما أمر به الرحمن.
وذلك أن لكن نفس الطواف بالبيت مشروع بغير إحرام، لا يجوز عند جماهير العلماء، بل لو جاز لتجارة لم يجز، فكيف للطواف بلا إحرام. ومن لم يوجبه فإنه [ ص: 213 ] يستحبه، فهذا فوت نفسه هذه الفضيلة. الدخول إلى مكة للطواف بغير إحرام لا واجبا ولا مستحبا، ولو كان ذلك مشروعا لكان الأنبياء أقدر على ذلك، وكانوا يذهبون في الهواء يحجون، وهذا لم يعرف عن أحد من الأنبياء ولا الصحابة، والأنبياء أفضل الخلق، والصحابة أفضل الخلق بعد الأنبياء، ولو كان عملا صالحا لكان هؤلاء أحق به من غيرهم. وذهابه محمولا مع الجن أو غيرهم في الهواء ليطوف ليس من الأعمال الصالحة المشروعة،
ونبينا - صلى الله عليه وسلم - إنما أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه الله من آياته بالمعراج، كما قال: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير . فالمقصود كان أن يريه الله من آياته، كما أراه ليلة المعراج ما أراه من الآيات. قال تعالى: أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى . وقال تعالى: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس .
وفي الصحيح عن قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به. ولهذا كان قوله ابن عباس لنريه من آياتنا دليلا في المعراج الذي كان بعد المسرى إلى المسجد الأقصى، لم يكن المقصود مجرد رؤية الأقصى، فإنه قد رآه المسلم والكافر والبر والفاجر، ولكن هو سبحانه أخبر بذلك ليكون هذا آية للرسول، فإنهم قد رأوا [ ص: 214 ] المسجد الأقصى، فإذا أخبرهم أنه رآه ووصفه لهم - كما جاء في الحديث الصحيح - كان ذلك حجة له على أنه رآه، ولم يمكنهم تكذيبه في ذلك، بخلاف ما لو أخبر بالعروج إلى السماء ابتداء، فإنهم كانوا إذا كذبوا بذلك لم يكن هناك ما رأوه حتى يصفه لهم.
وهو سبحانه قد أخبر بعروجه إلى السماء في قوله: ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى .
وهو سبحانه ذكر هذا بعد أن ذكر رؤية جبريل النزلة الأخرى في الأرض، فإنه رآه على صورته مرتين، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة. وقال في سورة التكوير وقد ذكر سبحانه بقوله: إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ، فهذا جبريل، ثم قال: وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين .
وهؤلاء الذين يحملون إلى مكة في الهواء: منهم من مثل له فرس أو بعير، يركبه وهو يسير في الهواء، ومنهم من لا يرى شيئا، ومنهم من يعرف أنه محمول. وقد حدثني منهم من حمل، وحدثني جماعات عن جماعات منهم وعمن كان قبلنا. وأحوالهم مع الشياطين بحسب بعدهم عن معرفة ما جاء به الرسول والعمل به، فإن هذا هو [ ص: 215 ] دين الله، وأهله هم عباد الله الذين لا سلطان للشيطان عليهم، كما قال تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا .
ولما قال الشيطان: بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال الله: هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ، ثم قال: إلا من اتبعك من الغاوين .
وهذا استثناء منقطع في أصح القولين، لقوله في الآية الأخرى. إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ، ولم يستثن منهم أحدا. وقال في الآية الأخرى: فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون .
وعباد الله هم الذين عبدوه وحده مخلصين له الدين، وعبادته إنما هي بطاعته وطاعة رسله، وذلك هو الواجب والمستحب، كما في صحيح وغيره [في] حديث الأولياء من حديث البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أبي هريرة - وروي: "يقول الله: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة" - فقد آذنته بالحرب وهذا مبسوط في مواضع . "وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، [ ص: 216 ] ولئن استعاذ بي لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه".
والمقصود هنا أنه كلما كان الإنسان أقرب إلى الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسوله كان أقرب إلى أن يكون من عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، وكلما كان أبعد عن ذلك كان أقرب إلى الشياطين. فهؤلاء الذين يحملهم في الهواء: منهم من يحمله إلى بلاد الكفر، ويدخلون مع الكفار في دينهم، وهم منافقون وإن كانوا في ديار الإسلام يظهرون الإسلام. ومنهم من يحمل من بعض بلاد الكفار إلى بعض، ومن ذلك ما يكون بسحر، ومنه ما لا يعرف صاحبه السحر، لكن يكون مشركا أو منافقا يتعبد تعبد المشركين والمنافقين.
والذين يحملون إلى مكة: منهم من لا يدخل المسجد الحرام ولا يصلي فيه، ولا يصلي في الطريق ولا في بلده، والمدة في وصولهم إلى مكة تختلف، منهم من يصل في بعض نهار من مثل مصر والشام والجزيرة والعراق، ومنهم من يصل في يوم أو يومين أو أكثر من ذلك.
وقد حدثني بعض هؤلاء المحمولين أنه كان له رفقة سماهم، وأنهم لم يدخلوا المسجد الحرام، ولا طافوا ولا صلوا، لا فيه ولا في الطريق. ومن هؤلاء من يتمثل له شخص ويقول: أنا الخضر، أو يسمي غير الخضر من الأنبياء والصالحين، ويقول: أنا أذهب بك إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، وقد يكاشفه ببعض الأشياء، وقد [ ص: 217 ] يحضر له طعاما أو شرابا في الهواء، ويكون ذلك مما قد أخذه من بعض الأماكن، وكثير منه يكون مسروقا قد سرقه وأخذه الشيطان من مال من خان شريكه، أو من مال من لم يذكر اسم الله عليه.
وهؤلاء من جنس الكهان، قد يوحون إلى أوليائهم من الإنس بعض ما يكاشفون به، ولا بد أن يكذبوا في بعض ما يخبرون به، لكن ما كان مستورا عنهم قد ذكر صاحبه عليه اسم الله لا يرونه ولا يخبرون به. وهذا من الفروق بين إخبار هؤلاء وبين إخبار المسيح بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، فإن المسيح يخبر بالبواطن التي تكون محجوبة عن الجن، كما يحجب عنهم الأشياء بذكر اسم الله تعالى. فالأكل متى ذكر اسم الله لم يشركه الشيطان في طعامه، وإن سمى الله عند دخول المنزل لم يشركه في دخول البيت، وإن لم يسم الله لا في هذا ولا هذا أدرك المبيت والطعام، كما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في الحديث المعروف .
والمسيح يخبر بذلك، وأيضا فخبر المسيح صدق كله، ليس في شيء منه كذب، وهؤلاء الذين يخبرون عن إعلام الشياطين لهم لا بد أن يكذبوا. قال تعالى: هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون . والكلام على جنس هذا وأقسامه مذكور في مواضع.
والمقصود أن مرور هؤلاء على المواقيت مع إرادة الوقوف بعرفة ليس مشروعا بالإجماع، لا واجبا ولا مستحبا، بل هو منهي عنه لا [ ص: 218 ] يجوز التعبد به، بل من أراد أن يقف مع المسلمين بعرفة فإنه يحج كما يحج المسلمون، فيحرم إذا حاذى الميقات، وإذا أفاض من عرفات فعل عند المشعر الحرام ومنى ما أمر الله به ورسوله، وطاف بالبيت العتيق. لا يشرع الوقوف إلا على هذا الوجه. ومن حمل إلى عرفات ولم يقف الوقوف المشروع، فهو كمن حمل يوم الجمعة إلى المسجد وهو جنب أو بلا وضوء، فسمع الخطبة ولم يصل مع المسلمين، أو صلى بلا وضوء أو إلى غير القبلة.