[ ص: 218 ] [ ص: 219 ] فصل
الأقوال نوعان
[ ص: 220 ] [ ص: 221 ] فصل الأقوال نوعان:
nindex.php?page=treesubj&link=21381أقوال ثابتة عن الأنبياء، فهي معصومة، يجب أن يكون معناها حقا، عرفه من عرفه وجهله من جهله. والبحث في ذلك إنما هو عن معرفة ما أرادته الأنبياء بأقوالهم. ومن طلب تفسير كلامهم وتأويله، ومقصوده معرفة مرادهم من الوجه الذي به يعرف مرادهم فقد سلك طريق الهدى؟ ومن كان مقصوده أن يجعل ما قالوه تبعا له، فإن وافقه قبله وإلا رده، وتكلف له من التحريف ما يسميه تأويلا، مع أنه يعلم بالضرورة أن كثيرا من ذلك أو أكثره لم ترده الأنبياء فهذا محرف للكلم عن مواضعه، لا طالب لمعرفة التأويل الذي يعرفه الراسخون في العلم.
والنوع الثاني: ما ليس منقولا عن الأنبياء، فقد علم أن من سواهم ليس بمعصوم، وحينئذ فلا يقبل كلامه ولا يرد إلا بعد تصور مراده ومعرفة صلاحه من فساده، فمن قال من أهل الكلام والجدل: إنه لا يفعل الأشياء بالأسباب، بل يفعل عندها لا بها، ولا يفعل لحكمة، وإنه لا يجعل في الأعيان صفات وطبائع وخواص يميز بها بين موصوف وموصوف، وباعتبارها يحصل ما يحصل من آثارها الموجودة في العالم، ولا خص الأفعال المأمور بها بما لأجله كانت حسنة مأمورا بها، ولا المنهي عنها بما لأجله كانت سيئات منهيا عنها، وإنه ليس لشيء من القوى والقدر التي في الحيوان والإنسان وغيره وفي النبات والمعادن والعناصر الأربعة تأثير في شيء، بل لا فرق بين الماء والنار، تخلق الحرارة عند ملاقاتها لا بقوة فيها،
[ ص: 222 ] والماء يخلق الري عنده لا بسبب عذوبة وقوة فيه، وأمثال ذلك فهذا مخالف لنصوص القرآن والسنة وإجماع سلف الأمة.
ولم يقل هذا القول أحد من سلف الأمة وأئمتها، وأول من قال هذا القول في الإسلام
nindex.php?page=showalam&ids=15658الجهم بن صفوان الذي أجمع الأمة على ضلالته، فهو أول من أنكر الأسباب والطبائع، كما أنه
nindex.php?page=treesubj&link=28725_29455_28712أول من ظهر عنه القول بنفي الصفات وخلق كلام الله وإنكار رؤيته وغير ذلك، ونصوص الكتاب والسنة وكلام السلف في إبطال هذا الأصل كثيرة جدا، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح
لأشج عبد القيس: nindex.php?page=hadith&LINKID=103982 "إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة"، فقال: أخلقين جبلت عليهما أم تخلقت بهما؟ فقال: "بل جبلت عليهما"، فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب. وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=19إن الإنسان خلق هلوعا nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=20إذا مسه الشر جزوعا nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=21وإذا مسه الخير منوعا .
ومما يدل على ذلك قوله تعالى في قصة إبراهيم:
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=69قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، فسلب النار طبيعة الحرارة التي بها تسخن، وجعلها بردا وسلاما، ولو كان ما يحصل عند ملاقاتها لا أثر لها فيه لم يحتج إلى ذلك، بل كان يكفي أن لا يخلق الأثر عند الملاقاة. بل قوله "بردا وسلاما" يقضي أنه جعل فيها ما توجب برودته
[ ص: 223 ] وسلامته. والأدلة في ذلك كثيرة تخبر أنه يخلق الأسباب والحكم، كقوله عز وجل:
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=14وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=15لنخرج به حبا ونباتا nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=16وجنات ألفافا ، وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=9ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=10والنخل باسقات لها طلع نضيد nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=11رزقا للعباد الآية . وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=164والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس الآية . وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=57وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا ... ، فذكر أن الرياح تقل السحاب أي تحمله، فجعل هذا الجماد فاعلا بطبعه.
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=1والذاريات ذروا الآيات . وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=99&ayano=2وأخرجت الأرض أثقالها ، وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=5وترى الأرض هامدة الآية . وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=99انظروا إلى ثمره إذا أثمر . وقال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=33كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا . وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=81وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم ، فوصف السرابيل بأنها تقي الحر والبأس. وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=69أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ،
[ ص: 224 ] أخبر أنه أنزل الماء من المزن، وهو السحاب، كما أخبر أنه أنزله من المعصرات، وهو المراد بقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=18وأنزلنا من السماء في مواضع أخر ، وبين أنه لو شاء لجعله أجاجا، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=53وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج ، وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=12وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ، فبين أن كلا من البحرين جعل فيه صفة قائمة به، عذوبة هذا وملوحة هذا، وامتن على عباده بذلك، وأنه لو شاء لجعل العذب أجاجا، فدل على أن المياه المشروبة مخصوصة بصفة جعلها بها تشرب، وأنه لو جعله أجاجا لما شرب، وبين أن أحد الجسمين يختصه بصفة يحصل بها الانتفاع ويختص أحدهما بقوة يكون بها الفعل.
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=13وجعلنا سراجا وهاجا nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=14وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=15لنخرج به حبا ونباتا nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=16وجنات ألفافا ، وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=48وأنزلنا من السماء ماء طهورا nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=138هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ، وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=10فأنبتنا فيها من كل زوج كريم أي صنف كريم، وهو الكثير المنفعة.
[ ص: 225 ]
فمن قال من أهل الجدل والكلام: إنه يحدث النبات عند المطر لا به، فقد خالف نص الرسول، مع مخالفته صريح المعقول، وكذلك في سائر ما يقوله، كقولهم: يحدث الشبع عند الأكل لا به، والزهوق عند القتل لا به، والهدى عند سماع القرآن لا به، فهذا النفي مخالف للكتاب والسنة والميزان للشرع، قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=16يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ، وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=14قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ، وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=52أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا .
وكما أخبر أنه يخلق الأشياء من موادها، في مثل قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=30وجعلنا من الماء كل شيء حي ، وقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=14خلق الإنسان من صلصال كالفخار nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=15وخلق الجان من مارج من نار ، وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=17والله أنبتكم من الأرض نباتا nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=18ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا .
وأخبر سبحانه أنه قائم بالقسط وأنه لا يظلم الناس شيئا، فلا يضع شيئا في غير موضع، ولا يسوي بين مختلفين ولا يفرق بين متماثلين، فقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=21أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية. وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=28أم نجعل الذين آمنوا [ ص: 226 ] وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ، وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=35أفنجعل المسلمين كالمجرمين الآية. وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=19وما يستوي الأعمى والبصير nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=20ولا الظلمات ولا النور الآية. وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل الآية.
nindex.php?page=treesubj&link=28978فدل في هذه الآية وغيرها على أن ما أمرهم به هو معروف في نفسه تعرفه القلوب، فهو مناسب لها مصلح لفسادها، ليس معنى كونه معروفا أنه مأمور به، إذ هذا قدر مشترك بينه وبين كل آمر حتى الشيطان، فإنه يأمر بما يأمر به، فعلم أن ما يأمر به الرسول مختص بأنه معروف، وما ينهى عنه مختص بأنه منكر، وما يحله مختص بأنه طيب، وما يحرمه مختص بأنه خبيث. ومثل هذا كثير في القرآن وفي غيره من الكتب كالتوراة والإنجيل والزبور. والله سبحانه أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما.
[ ص: 218 ] [ ص: 219 ] فَصْلٌ
الْأَقْوَالُ نَوْعَانِ
[ ص: 220 ] [ ص: 221 ] فَصْلٌ الْأَقْوَالُ نَوْعَانِ:
nindex.php?page=treesubj&link=21381أَقْوَالٌ ثَابِتَةٌ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَهِيَ مَعْصُومَةٌ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا حَقًّا، عَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ. وَالْبَحْثُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا أَرَادَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ بِأَقْوَالِهِمْ. وَمَنْ طَلَبَ تَفْسِيرَ كَلَامِهِمْ وَتَأْوِيلَهُ، وَمَقْصُودُهُ مَعْرِفَةُ مُرَادِهِمْ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ مُرَادُهُمْ فَقَدْ سَلَكَ طَرِيقَ الْهُدَى؟ وَمَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَجْعَلَ مَا قَالُوهُ تَبَعًا لَهُ، فَإِنْ وَافَقَهُ قَبْلَهُ وَإِلَّا رَدَّهُ، وَتَكَلَّفَ لَهُ مِنَ التَّحْرِيفِ مَا يُسَمِّيهِ تَأْوِيلًا، مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَهُ لَمْ تُرِدْهُ الْأَنْبِيَاءُ فَهَذَا مُحَرَّفٌ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، لَا طَالِبٌ لِمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا لَيْسَ مَنْقُولًا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَنْ سِوَاهُمْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُقْبَلُ كَلَامُهُ وَلَا يُرَدُّ إِلَّا بَعْدَ تَصَوُّرِ مُرَادِهِ وَمَعْرِفَةِ صَلَاحِهِ مِنْ فَسَادِهِ، فَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْجَدَلِ: إِنَّهُ لَا يَفْعَلُ الْأَشْيَاءَ بِالْأَسْبَابِ، بَلْ يَفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا، وَلَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةٍ، وَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُ فِي الْأَعْيَانِ صِفَاتٍ وَطَبَائِعَ وَخَوَاصَّ يُمَيَّزُ بِهَا بَيْنَ مَوْصُوفٍ وَمَوْصُوفٍ، وَبِاعْتِبَارِهَا يَحْصُلُ مَا يَحْصُلُ مِنْ آثَارِهَا الْمَوْجُودَةِ فِي الْعَالَمِ، وَلَا خَصَّ الْأَفْعَالَ الْمَأْمُورَ بِهَا بِمَا لِأَجْلِهِ كَانَتْ حَسَنَةً مَأْمُورًا بِهَا، وَلَا الْمَنْهِيَّ عَنْهَا بِمَا لِأَجْلِهِ كَانَتْ سَيِّئَاتٍ مَنْهِيًّا عَنْهَا، وَإِنَّهُ لَيْسَ لِشَيْءٍ مِنَ الْقُوَى وَالْقُدَرِ الَّتِي فِي الْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ وَفِي النَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ وَالْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ تَأْثِيرٌ فِي شَيْءٍ، بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالنَّارِ، تُخْلَقُ الْحَرَارَةُ عِنْدَ مُلَاقَاتِهَا لَا بِقُوَّةٍ فِيهَا،
[ ص: 222 ] وَالْمَاءُ يُخْلَقُ الرَّيُّ عِنْدَهُ لَا بِسَبَبِ عُذُوبَةٍ وَقُوَّةٍ فِيهِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ.
وَلَمْ يَقُلْ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فِي الْإِسْلَامِ
nindex.php?page=showalam&ids=15658الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ الَّذِي أَجْمَعَ الْأُمَّةُ عَلَى ضَلَالَتِهِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَنْكَرَ الْأَسْبَابَ وَالطَّبَائِعَ، كَمَا أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=28725_29455_28712أَوَّلُ مَنْ ظَهَرَ عَنْهُ الْقَوْلُ بِنَفْيِ الصِّفَاتِ وَخَلْقِ كَلَامِ اللَّهِ وَإِنْكَارِ رُؤْيَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامُ السَّلَفِ فِي إِبْطَالِ هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مِثْلَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: nindex.php?page=hadith&LINKID=103982 "إِنَّ فِيكَ لِخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ"، فَقَالَ: أَخُلُقَيْنِ جُبِلْتُ عَلَيْهِمَا أَمِ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا؟ فَقَالَ: "بَلْ جُبِلْتَ عَلَيْهِمَا"، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى مَا يُحِبُّ. وَقَالَ تَعَالَىَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=19إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=20إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=21وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=69قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ، فَسَلَبَ النَّارَ طَبِيعَةَ الْحَرَارَةِ الَّتِي بِهَا تَسْخُنُ، وَجَعَلَهَا بَرْدًا وَسَلَامًا، وَلَوْ كَانَ مَا يَحْصُلُ عِنْدَ مُلَاقَاتِهَا لَا أَثَرَ لَهَا فِيهِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذَلِكَ، بَلْ كَانَ يَكْفِي أَنْ لَا يَخْلُقَ الْأَثَرَ عِنْدَ الْمُلَاقَاةِ. بَلْ قَوْلُهُ "بَرْدًا وَسَلَامًا" يَقْضِي أَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا مَا تُوجِبُ بُرُودَتَهُ
[ ص: 223 ] وَسَلَامَتَهُ. وَالْأَدِلَّةُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ تُخْبِرُ أَنَّهُ يَخْلُقُ الْأَسْبَابَ وَالْحِكَمَ، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=14وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=15لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=16وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ، وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=9وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=10وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=11رِزْقًا لِلْعِبَادِ الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=164وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=57وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا ... ، فَذَكَرَ أَنَّ الرِّيَاحَ تُقِلُّ السَّحَابَ أَيْ تَحْمِلُهُ، فَجَعَلَ هَذَا الْجَمَادَ فَاعِلًا بِطَبْعِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=1وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا الْآيَاتِ . وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=99&ayano=2وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا ، وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=5وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=99انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ . وَقَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=33كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا . وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=81وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمُ بَأْسَكُمْ ، فَوَصَفَ السَّرَابِيلَ بِأَنَّهَا تَقِي الْحَرَّ وَالْبَأْسَ. وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=69أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ،
[ ص: 224 ] أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْمَاءَ مِنَ الْمُزْنِ، وَهُوَ السَّحَابُ، كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ مِنَ الْمُعْصِرَاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=18وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ أُجَاجًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=53وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ، وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=12وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ، فَبَيَّنَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْبَحْرَيْنِ جَعَلَ فِيهِ صِفَةً قَائِمَةً بِهِ، عُذُوبَةُ هَذَا وَمُلُوحَةُ هَذَا، وَامْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَ الْعَذْبَ أُجَاجًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِيَاهَ الْمَشْرُوبَةَ مَخْصُوصَةٌ بِصِفَةٍ جَعَلَهَا بِهَا تُشْرَبُ، وَأَنَّهُ لَوْ جَعَلَهُ أُجَاجًا لَمَا شُرِبَ، وَبَيَّنَ أَنَّ أَحَدَ الْجِسْمَيْنِ يَخْتَصُّهُ بِصِفَةٍ يَحْصُلُ بِهَا الِانْتِفَاعُ وَيَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِقُوَّةٍ يَكُونُ بِهَا الْفِعْلُ.
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=13وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=14وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=15لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=16وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ، وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=48وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ، وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=138هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ، وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=10فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أَيْ صِنْفٍ كَرِيمٍ، وَهُوَ الْكَثِيرُ الْمَنْفَعَةِ.
[ ص: 225 ]
فَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْجَدَلِ وَالْكَلَامِ: إِنَّهُ يَحْدُثُ النَّبَاتُ عِنْدَ الْمَطَرِ لَا بِهِ، فَقَدْ خَالَفَ نَصَّ الرَّسُولِ، مَعَ مُخَالَفَتِهِ صَرِيحَ الْمَعْقُولِ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ مَا يَقُولُهُ، كَقَوْلِهِمْ: يَحْدُثُ الشِّبَعُ عِنْدَ الْأَكْلِ لَا بِهِ، وَالزَّهُوقُ عِنْدَ الْقَتْلِ لَا بِهِ، وَالْهُدَى عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ لَا بِهِ، فَهَذَا النَّفْيُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمِيزَانِ لِلشَّرْعِ، قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=16يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ، وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ، وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=14قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ، وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=52أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا .
وَكَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ يَخْلُقُ الْأَشْيَاءَ مِنْ مَوَادِّهَا، فِي مِثْلِ قَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=30وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=14خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=15وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ، وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=17وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=18ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا .
وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ وَأَنَّهُ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا، فَلَا يَضَعُ شَيْئًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَلَا يُسَوِّي بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ، فَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=21أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=28أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا [ ص: 226 ] وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ، وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=35أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=19وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=20وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ الْآيَةَ.
nindex.php?page=treesubj&link=28978فَدَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا عَلَى أَنَّ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ هُوَ مَعْرُوفٌ فِي نَفْسِهِ تَعْرِفُهُ الْقُلُوبُ، فَهُوَ مُنَاسِبٌ لَهَا مُصْلِحٌ لِفَسَادِهَا، لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِهِ مَعْرُوفًا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ، إِذْ هَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُلِّ آمِرٍ حَتَّى الشَّيْطَانُ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ الرَّسُولُ مُخْتَصٌّ بِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ، وَمَا يَنْهَى عَنْهُ مُخْتَصٌّ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ، وَمَا يُحِلُّهُ مُخْتَصٌّ بِأَنَّهُ طَيِّبٌ، وَمَا يُحَرِّمُهُ مُخْتَصٌّ بِأَنَّهُ خَبِيثٌ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.