الخبر وما يتحقق به الإسناد - فصل منه
فصل
" الإثبات " معنى تكون به المزية في الكلام
632- وإذا ثبت أن الجملة إذا بني عليها حصل منها ومن الذي بني عليها في الكثير معنى يجب فيه أن ينسب إلى واحد مخصوص فإن ذلك يقتضي لا محالة أن يكون " الخبر " في نفسه معنى هو غير المخبر به والمخبر عنه . ذاك لعلمنا باستحالة أن يكون للمعنى المخبر به نسبة إلى المخبر، وأن يكون المستنبط والمستخرج والمستعان على تصويره بالفكر.
فليس يشك عاقل أنه محال أن يكون للحمل في قوله :
وما حملت أم امرئ في ضلوعها
نسبة إلى وأن يكون الفكر منه كان فيه نفسه، وأن يكون معناه الذي قيل إنه استنبطه واستخرجه وغاص عليه . وهكذا السبيل أبدا لا يتصور أن يكون للمعنى المخبر به نسبة إلى الشاعر، وأن يبلغ من أمره أن يصير خاصا به، فاعرفه . الفرزدق
633- ومن الدليل القاطع فيه، ما بيناه في " الكناية " و " الاستعارة " و " التمثيل " وشرحناه من أن من شأن هذه الأجناس أن توجب الحسن والمزية وأن المعاني تتصور من أجلها بالصور المختلفة، وأن العلم بإيجابها ذلك ثابت في العقول ومركوز في غرائز النفوس، وبينا كذلك أنه محال أن تكون المزايا التي تحدث بها، حادثة في المعنى المخبر به المثبت أو المنفي لعلمنا باستحالة أن تكون المزية التي تجدها لقولنا : " هو طويل النجاد " على قولنا : " طويل القامة " في الطول والتي تجدها لقولنا : " هو كثير رماد القدر " على قولنا : “ " هو كثير القرى [ ص: 538 ] والضيافة " في كثرة القرى . وإذا كان ذلك محالا ثبت أن المزية والحسن يكونان في إثبات ما يراد أن يوصف به المذكور، والإخبار به عنه . وإذا ثبت ذلك ثبت أن " الإثبات " معنى ، لأن حصول المزية والحسن فيما ليس بمعنى محال .
[ ص: 539 ]
هذا مما نقل من مسودته بخطه بعد وفاته رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم .
وبه ثقتي وعليه اعتمادي
ألفاظ اللغة لم توضع إلا لضم بعضها إلى بعض، وبضمها تكون الفائدة وهذا موضع " الخبر " و " الإسناد "
634- اعلم أن هاهنا أصلا أنت ترى الناس فيه في صورة من يعرف من جانب وينكر من آخر، وهو أن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة، لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض، فيعرف فيما بينها فوائد وهذا علم شريف وأصل عظيم .
والدليل على ذلك أنا إن زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة، إنما وضعت ليعرف بها معانيها في أنفسها، لأدى ذلك إلى ما لا يشك عاقل في استحالته، وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التي وضعوها لها لتعرفها بها حتى كأنهم لو لم يكونوا قالوا : " رجل " و " فرس " و " دار " لما كان يكون [ ص: 540 ] لنا علم بهذه الأجناس- ولو لم يكونوا وضعوا أمثلة الأفعال لما كان لنا علم بمعانيها - حتى لو لم يكونوا قالوا : " فعل " و " يفعل " لما كنا نعرف الخبر في نفسه ومن أصله . ولو لم يكونوا قد قالوا : افعل لما كنا نعرف الأمر من أصله ولا نجده في نفوسنا- . وحتى لو لم يكونوا قد وضعوا الحروف، لكنا نجهل معانيها فلا نعقل نفيا ولا نهيا ولا استفهاما ولا استثناء . كيف؟ والمواضعة لا تكون ولا تتصور إلا على معلوم . فمحال أن يوضع اسم أو غير اسم لغير معلوم ، لأن المواضعة كالإشارة، فكما أنك إذا قلت : “ خذ ذاك " لم تكن هذه الإشارة لتعرف السامع المشار إليه في نفسه، ولكن ليعلم أنه المقصود من بين سائر الأشياء التي تراها وتبصرها. كذلك حكم " اللفظ " مع ما وضع له . ومن هذا الذي يشك أنا لم نعرف " الرجل " و " الفرس " و " الضرب " و " القتل " إلا من أساميها؟ لو كان لذلك مساغ في العقل، لكان ينبغي إذا قيل : " زيد " أن تعرف المسمى بهذا الاسم من غير أن تكون قد شاهدته أو ذكر لك بصفة .
635- وإذا قلنا في العلم باللغات من مبتدأ الأمر أنه كان إلهاما، فإن الإلهام لا يرجع إلى معاني اللغات، ولكن إلى كون ألفاظ اللغات سمات [ ص: 541 ] لتلك المعاني وكونها مرادة بها . أفلا ترى إلى قوله تعالى : « وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين » [ سورة البقرة : 31 ] أفترى أنه قيل لهم : « أنبئوني بأسماء هؤلاء » وهم لا يعرفون المشار إليهم بهؤلاء ؟
636 - وإذ قد عرفت هذه الجملة، فاعلم أن معاني الكلام كلها معان لا تتصور إلا فيما بين شيئين . والأصل والأول هو " الخبر " . وإذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع . ومن الثابت في العقول والقائم في النفوس أنه لا يكون خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه؛ لأنه ينقسم إلى " إثبات " و " نفي " و " الإثبات " يقتضي مثبتا ومثبتا له . و " النفي " يقتضي منفيا ومنفيا عنه . فلو حاولت أن تتصور إثبات معنى أو نفيه من دون أن يكون هناك مثبت له ومنفي عنه، حاولت ما لا يصح في عقل ولا يقع في وهم . من أجل ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء مظهر أو مقدر . وكان لفظك به إذا أنت لم ترد ذلك، وصوتا تصوته سواء .
637- وإن أردت أن يستحكم معرفة ذلك في نفسك فانظر إليك إذا قيل لك : ما فعل زيد؟ فقلت : “ خرج . هل يتصور أن يقع في خلدك من [ ص: 542 ] " خرج " معنى من دون أن تنوي فيه ضمير " زيد " ؟ وهل تكون إن أنت زعمت أنك لم تنو ذلك إلا مخرجا نفسك إلا الهذيان؟
وكذلك فانظر إذا قيل لك : " كيف زيد؟ " فقلت : “ صالح " هل يكون لقولك : " صالح " أثر في نفسك من دون أن تريد " هو صالح " ؟ أم هل يعقل السامع منه شيئا إن هو لم يعتقد ذلك؟
إذا ثبت ذلك، فإنه ما لا يبقى معه لعاقل شك، أن الخبر معنى لا يتصور إلا بين شيئين، يكون أحدهما مثبتا والآخر مثبتا له، أو يكون أحدهما منفيا والآخر منفيا عنه، وأنه لا يتصور مثبت من غير مثبت له، ومنفي من دون منفي عنه .
فلما كان الأمر كذلك أوجب ذلك أن لا يعقل إلا من مجموع جملة فعل واسم كقولنا : " خرج زيد " أو اسم واسم كقولنا : " زيد منطلق " . فليس في الدنيا خبر يعرف من غير هذا السبيل وبغير هذا الدليل . وهو شيء يعرفه العقلاء في كل جيل وأمة وحكم يجري عليه الأمر في كل لسان ولغة .
[ ص: 543 ]
638 - وإذ قد عرفت أنه لا يتصور الخبر إلا فيما بين شيئين : مخبر به ومخبر عنه، فينبغي أن تعلم أنه يحتاج من بعد هذين إلى ثالث . وذلك أنه كما لا يتصور أن يكون هاهنا خبر حتى يكون مخبر به ومخبر عنه . كذلك لا يتصور أن يكون خبر حتى يكون له " مخبر " يصدر عنه ويحصل من جهته، وتعود التبعة فيه عليه . فيكون هو الموصوف بالصدق إن كان صدقا وبالكذب إن كان كذبا . أفلا ترى أن من المعلوم أنه لا يكون إثبات ونفي حتى يكون مثبت وناف يكون مصدرهما من جهته، ويكون هو المزجي لهما، والمبرم والناقض فيهما، ويكون بهما موافقا ومخالفا ومصيبا ومخطئا ومحسنا ومسيئا .
"الخبر" وجميع معاني الكلام، معان ينشئها الإنسان في نفسه
639 - وجملة الأمر أن " الخبر " وجميع معاني الكلام معان ينشئها الإنسان في نفسه، ويصرفها في فكره ويناجي بها قلبه، ويراجع فيها عقله، وتوصف بأنها مقاصد وأغراض وأعظمها شأنا " الخبر " فهو الذي يتصور بالصور الكثيرة وتقع فيه الصناعات العجيبة ، وفيه تكون المزايا التي بها يقع التفاضل في " الفصاحة " على ما شرحنا.
640 - ثم إنا إذا نظرنا في المعاني التي يصفها العقلاء بأنها معان مستنبطة ولطائف مستخرجة ويجعلون لها اختصاصا بقائل دون قائل، كمثل قولهم في معاني أبيات من الشعر : إنه معنى لم يسبق إليه فلان وأنه الذي فطن له [ ص: 544 ] واستخرجه، وأنه الذي غاص عليه بفكره، وأنه أبو عذره، لم تجد تلك المعاني في الأمر الأعم شيئا غير الخبر الذي هو إثبات المعنى للشيء ونفيه عنه . يدلك على ذلك أنك لا تنظر إلى شيء من المعاني الغريبة التي تختص بقائل دون قائل إلا وجدت الأصل فيه والأساس الإثبات والنفي . وإن أردت في ذلك مثالا فانظر إلى بيت : الفرزدق
وما حملت أم امرئ في ضلوعها أعق من الجاني عليها هجائيا
فإنك إذا نظرت لم تشك في أن الأصل والأساس هو قوله : " وما حملت أم امرئ " وأن ما جاوز ذلك من الكلمات إلى آخر البيت مستند إليه ومبني عليه، وأنك إن رفعته لم تجد لشيء منها بيانا ولا رأيت لذكرها معنى، بل ترى ذكرك لها إن ذكرتها هذيانا . والسبب الذي من أجله كان كذلك أن من حكم كل ما عدا جزئي الجملة - " الفعل والفاعل " و " المبتدأ والخبر " - أن يكون تخصيصا للمعنى المثبت أو المنفي . فقوله : " في ضلوعها " يفيد أولا أنه لم يرد نفي الحمل على الإطلاق، ولكن الحمل في الضلوع، . وقوله : " أعق " يفيد أنه لم يرد هذا الحمل الذي هو حمل في الضلوع أيضا على الإطلاق، ولكن حملا في الضلوع محموله أعق من الجاني عليها هجاءه . وإذا كان ذلك كله تخصيصا للحمل، لم يتصور أن يعقل من دون أن يعقل نفي الحمل لأنه لا يتصور [ ص: 545 ] تخصيص شيء لم يدخل في نفي ولا إثبات ولا ما كان في سبيلهما من الأمر به والنهي عنه والاستخبار عنه .
641- وإذ قد ثبت أن الخبر وسائر معاني الكلام معان ينشئها الإنسان في نفسه، ويصرفها في فكره، ويناجي بها قلبه ويراجع فيها لبه، فاعلم أن الفائدة في العلم بها واقعة من المنشئ لها، وصادرة عن القاصد إليها، وإذا قلنا في الفعل: " إنه موضوع للخبر " لم يكن المعنى فيه أنه موضوع لأن يعلم به الخبر في نفسه وجنسه، ومن أصله، وما هو؟ ولكن المعنى أنه موضوع حتى إذا ضممته إلى اسم، عقل به ومن ذلك الاسم الخبر بالمعنى الذي اشتق ذلك الفعل منه من مسمى ذلك الاسم، واقعا منك أيها المتكلم، فاعرفه .