[ ص: 142 ]
فصل
هذا كلام في النكرة إذا قدمت على الفعل أو قدم الفعل عليها
النكرة وتقديمها على الفعل في الاستفهام
138- إذا قلت : " أجاءك رجل ؟ " فأنت تريد أن تسأله : هل كان مجيء من واحد من الرجال إليه، فإن قدمت الاسم فقلت : " أرجل جاءك ؟ " فأنت تسأله عن جنس من جاءه أرجل هو أم امرأة؟ ويكون هذا منك إذا كنت علمت أنه قد أتاه آت . ولكنك لم تعلم جنس ذلك الآتي، فسبيلك في ذلك سبيلك إذا أردت أن تعرف عين الآتي فقلت : " أزيد جاءك أم عمرو ؟ " ولا يجوز تقديم الاسم في المسألة الأولى، لأن تقديم الاسم يكون إذا كان السؤال عن الفاعل، والسؤال عن الفاعل يكون إما عن عينه أو عن جنسه ولا ثالث . وإذا كان كذلك، كان محالا أن تقدم الاسم النكرة وأنت لا تريد السؤال عن الجنس، لأنه لا يكون لسؤالك حينئذ متعلق من حيث لا يبقى بعد الجنس إلا العين . والنكرة لا تدل على عين شيء فيسأل بها عنه .
فإن قلت : " أرجل طويل جاءك أم قصير " كان السؤال عن أن الجائي كان من جنس طوال الرجال أم قصارهم؟ فإن وصفت النكرة بالجملة فقلت : " أرجل كنت عرفته من قبل أعطاك هذا أم رجل لم تعرفه " [ ص: 143 ] كان السؤال عن المعطي أكان ممن عرفه قبل، أم كان إنسانا لم تتقدم منه معرفة له .
تقديم النكرة في الخبر ومعناه
139- وإذ قد عرفت الحكم في الابتداء بالنكرة في " الاستفهام " " فابن الخبر " عليه . فإذا قلت : " رجل جاءني " لم يصلح حتى تريد أن تعلمه أن الذي جاءك رجل لا امرأة، ويكون كلامك مع من قد عرف أن قد أتاك آت . فإن لم ترد ذاك كان الواجب أن تقول : " جاءني رجل " فتقدم الفعل .
وكذلك إن قلت : " رجل طويل جاءني " لم يستقم حتى يكون السامع قد ظن أنه قد أتاك قصير، أو نزلته منزلة من ظن ذلك.
140- وقولهم : " شر أهر ذا ناب " إنما قدم فيه " شر " لأن المراد أن يعلم أن الذي أهر ذا الناب هو من جنس الشر لا جنس الخير، فجرى مجرى أن تقول : " رجل جاءني " تريد أنه رجل لا امرأة ، وقول العلماء إنه إنما يصلح لأنه بمعنى : " ما أهر ذا ناب إلا شر " .
بيان لذلك . ألا ترى أنك لا تقول : " ما أتاني إلا رجل " إلا حيث يتوهم السامع أنه قد أتتك امرأة ، ذاك لأن الخبر ينقض النفي يكون حيث يراد [ ص: 144 ] أن يقصر الفعل على شيء وينفى عما عداه . فإذا قلت : " ما جاءني إلا زيد " كان المعنى أنك قد قصرت المجيء على زيد، ونفيته عن كل من عداه، وإنما يتصور قصر الفعل على معلوم . ومتى لم يرد بالنكرة الجنس، لم يقف منها السامع على معلوم، حتى تزعم أني أقصر له الفعل عليه، وأخبره أنه كان منه دون غيره .
141- واعلم أنا لم نرد بما قلناه من أنه إنما حسن الابتداء بالنكرة في قولهم: " شر أهر ذا ناب " لأنه أريد به الجنس أن معنى " شر " و " الشر " سواء وإنما أردنا أن الغرض من الكلام أن نبين أن الذي أهر ذا الناب هو من جنس الشر لا جنس الخير ، كما أنا إذا قلنا في قولهم : " أرجل أتاك أم امرأة ؟ " أن السؤال عن الجنس، لم نرد بذلك أنه بمنزلة أن يقال : " الرجل أم المرأة أتاك ؟ " ولكنا نعني أن المعنى على أنك سألت عن الآتي : أهو من جنس الرجال أم جنس النساء، فالنكرة إذن على أصلها من كونها لواحد من الجنس ، إلا أن القصد منك لم يقع إلى كونه واحدا، وإنما وقع إلى كونه من جنس الرجال .
وعكس هذا أنك إذا قلت : " أرجل أتاك أم رجلان ؟ " كان القصد منك إلى كونه واحدا، دون كونه رجلا، فاعرف ذلك أصلا ، وهو أنه قد يكون في [ ص: 145 ] اللفظ دليل على أمرين، ثم يقع القصد إلى أحدهما دون الآخر، فيصير ذلك الآخر بأن لم يدخل في القصد كأنه لم يدخل في دلالة اللفظ .
وإذا اعتبرت ما قدمته من قول صاحب الكتاب : إنما قلت : " عبد الله فنبهته له، ثم بنيت عليه الفعل " وجدته يطابق هذا . وذاك أن التنبيه لا يكون إلا على معلوم، كما أن قصر الفعل لا يكون إلا على معلوم . فإذا بدأت بالنكرة فقلت : " رجل " وأنت لا تقصد بها الجنس، وأن تعلم السامع أن الذي أردت بالحديث رجل لا امرأة، كان محالا أن تقول : " إني قدمته لأنبه المخاطب له " لأنه يخرج بك إلى أن تقول : إني أردت أن أنبه السامع لشيء لا يعلمه في جملة ولا تفصيل . وذلك ما لا يشك في استحالته فاعرفه .