إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين
هذه الآية -والتي بعدها- تتضمن ما كانت العرب شرعته في جاهليتها من تحريم شهور الحل، وتحليل شهور الحرمة، وإذا نص ما كانت العرب تفعله تبين معنى الآيات، فالذي تظاهرت به الروايات وينفك من مجموع ما ذكر الناس أن العرب كانت لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وإعمال سلاحها، فكانوا إذا توالت عليهم حركة ذي القعدة وذي الحجة والمحرم صعب عليهم وأملقوا، وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين في العرب وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد بن حذيفة ، ثم خلف ابنه قلع بن عباد، ثم خلفه ابنه أمية بن قلع، ثم خلفه ابنه عوف بن أمية، ثم خلفه ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف ، وعليه قام الإسلام، وذكر وغيره أن الأمر كان في عدوان قبل الطبري بني مالك بن كنانة ، وكانت صورة فعلهم أن العرب كانت إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين، فقالوا: أنسئنا شهرا، أي: أخر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم فيغيرون فيه ويعيشون، ثم يلتزمون [ ص: 306 ] حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة، قال : ويسمون ذلك الصفر المحرم، ثم يسمون ربيعا الأول صفرا وربيعا الآخر ربيعا الأول، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون سنتهم من المحرم الموضوع لهم فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهرا أولها المحرم المحلل ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر، ثم استقبال السنة كما ذكرنا، ففي هذا قال الله عز وجل: مجاهد إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا أي: ليست ثلاثة عشر شهرا، قال : حدثني الطبري ابن وكيع عن عمران بن عيينة عن حصين عن أبي مالك قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا، قال : ثم كانوا يحجون في كل شهر عامين ولاء ثم بعد ذلك يبدلون فيحجون عامين ولاء، ثم كذلك حتى جاءت حجة مجاهد رضي الله عنه في ذي القعدة حقيقة، وهم يسمونه ذا الحجة، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة، فذلك قوله: أبي بكر وفي حديث "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان"، رضي الله عنهما ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع فساق الحديث فقال فيه: "أولهن رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، وذو القعدة وذو الحجة والمحرم".
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويجيء في أكثر الكتب أنهم كانوا يجعلون حرمة المحرم في صفر ويسكت عن تمام القصة، والذي ذكرناه هو بيانها، وأما كون المحرم أول السنة العربية، وكان حقه -إذ التاريخ من الهجرة- أن يكون أول السنة في ربيع الأول، فإن ذلك فيما يروى، لأن رضي الله عنه د ون ديوان المسلمين وجعل تاريخه المحرم إذ قبله انقضاء الموسم والحج، فكان الحج خاتمة للسنة، واعتد بعام الهجرة وإن كان قد نقص من أوله شيء، ولما كانت سنة عمر بن الخطاب العرب هلالية، بدأ العام من أول شهر، ولم يكن في الثاني عشر من ربيع الذي هو يوم دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ولا كان عند تمام [ ص: 307 ] الحج; لأنه في كسر شهر، وأما الأربعة الحرم فهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: قصد التفريق بينه وبين ما كانت تفعله قبائل ربيعة بأسرها، فإنها كانت تجعل رجبها رمضان وتحرمه ابتداعا منها، وكانت قريش ومن تابعها في ذلك من قبائل "ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" مضر على الحق، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ونسبه إلى مضر إذ كان حكمه وتحريمه إنما كان من قبل قريش، وفي المفضليات لبعض شعراء الجاهلية :
وشهر بني أمية والهدايا ... ............................
البيت، قال : يريد رجبا، وقرأ الأصمعي "اثنا عشر شهرا" بسكون العين، وذلك تخفيف لتوالي الحركات، وكذلك قرأ: "أحد عشر" و"تسعة عشر". أبو جعفر بن القعقاع:
وقوله تعالى: في كتاب الله أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ أو غيره، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه وليست بمعنى قضائه، وتقديره: لأن تلك هي قبل خلق السموات والأرض، والكتاب الذي هو المصدر هو العامل في "يوم"، و"في" من قوله: في كتاب الله متعلقة بـ"مستقرة أو ثابتة" ونحوه، ويقلق أن يكون الكتاب: القرآن في هذا الموضع، وتأمل، ولا يتعلق "في" بـ"عدة" للتفرقة بين الصلة [ ص: 308 ] والموصول بخبر "إن" . وقوله: منها أربعة حرم نص على تفضيل هذه الأربعة وتشريفها، قال : "اصطفى الله من الملائكة والبشر رسلا، ومن الشهور المحرم ورمضان، ومن البقع المساجد، ومن الأيام الجمعة، ومن الليالي ليلة القدر، ومن الكلام ذكره، فينبغي أن يعظم ما عظم الله". قتادة
وقوله: ذلك الدين القيم قالت فرقة: معناه: الحساب المستقيم، وقال رضي الله عنهما فيما حكى المهدوي: معناه: القضاء المستقيم. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والأصوب عندي أن يكون "الدين" هاهنا على أشهر وجوهه، أي ذلك الشرع والطاعة لله. "القيم" أي:القائم المستقيم، وهو من "قام يقوم" بمنزلة "سيد" من "ساد يسود" أصله قيوم، وقوله: فلا تظلموا فيهن أنفسكم الضمير عائد على "الاثنا عشر شهرا" أي: لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في الزمن كله، وقال : الضمير عائد على "الأربعة الأشهر"، ونهي عن الظلم فيها تشريفا لها بالتخصيص والذكر وإن كان منهيا عنه في كل الزمن، وزعم النحاة أن قتادة العرب تكني عما دون العشرة من الشهور: "فيهن"، وعما فوق العشرة: "فيها"، وروي عن أنه قال: إني لأتعجب من فعل الكسائي العرب هذا، وكذلك يقولون فيما دون العشرة من الليالي: "خلون"، وفيما فوقها: "خلت". وقال معنى "فيهن" أي بسببهن ومن جراهن في أن تحلوا حرامها وتبدلوه بما لا حرمة له، وحكى الحسن: المهدوي أنه قيل: "لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتال" . ثم نسخ بفرض القتال في كل زمن، قال في كتاب سعيد بن المسيب : الطبري كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرم القتال في الأشهر الحرم بما أنزل الله في ذلك حتى نزلت براءة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
[ ص: 309 ] وقوله تعالى: وقاتلوا المشركين معناه: فيهن فأحرى في غيرهن، وقوله: كافة معناه: جميعا، وهو مصدر في موضع الحال، قال : كالعاقبة والعافية، فهو -على هذا- كما تقول: خاصة وعامة، ويظهر أيضا أنه من كف يكف، أي جماعة تكف من عارضها، وكذلك نقول: الكافة، أي تكف من خالفها، فاللفظة -على هذا- اسم فاعل، وقال بعض الناس: معناه: يكف بعضهم بعضا عن التخلف، وما قدمناه أعم وأحسن، وقال بعض الناس: كان الفرض بهذه الآية قد توجه على الأعيان ثم نسخ ذلك بعد وجعل فرض كفاية. الطبري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا الذي قالوه لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم أنه ألزم الأمة جميعا النفر، وإنما معنى الآية الحض على قتلاهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة، ثم قيدها بقوله سبحانه: كما يقاتلونكم ، فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم، وأما الجهاد الذي يندب إليه فإنما هو فرض على الكفاية إذا قام به بعض الأمة سقط عن الغير.
وقوله: واعلموا أن الله مع المتقين خبر في ضمنه أمر بالتقوى ووعد عليها بالنصر والتأييد.