يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون
المراد بهذه الآية بيان نقائص المذكورين، ونهي المؤمنين عن تلك النقائص مترتب ضمن ذلك، واللام في "ليأكلون" لام التأكيد، وصورة هذا الأكل هي أنهم يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضا باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يوهمونهم أن النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله، وهم خلال ذلك يحتجنون تلك الأموال كالذي ذكره في كتاب السير عن الراهب الذي استخرج كنزه، وقيل: كانوا يأخذون منهم من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع، وقيل: كانوا يرتشون في الأحكام، ونحو ذلك. سلمان
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقوله تعالى: بالباطل يعم كل ذلك، وقوله: ( يصدون ) الأشبه هنا أن يكون معدى أي: يصدون غيرهم، وهذا الترجيح إنما هو لنباهة منازلهم في قومهم، و "صد" يستعمل واقفا ومتجاوزا، ومنه قول الشاعر :
صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا
و"سبيل الله": الإسلام وشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ويحتمل أن يريد: ويصدون عن سبيل الله في أكلهم الأموال بالباطل، والأول أرجح. وقوله: "والذين" ابتداء وخبره "فبشرهم"، ويجوز أن يكون "الذين" معطوفا على الضمير في قوله: [ ص: 301 ] "يأكلون" على نظر في ذلك، لأن الضمير لم يؤكد، وأسند إلى أبو حاتم علباء بن أحمد أنه قال: لما أمر بكتب المصحف أراد أن ينقص الواو في قوله: "والذين يكنزون" فأبي ذلك عثمان وقال: "لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي" فألحقها. أبي بن كعب
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وعلى إرادة يجري قول عثمان : إن الآية في أهل الكتاب، وخالفه معاوية فقال: بل هي فينا، فشكاه إلى أبو ذر فاستدعاه من عثمان الشام ثم خرج إلى الربذة، والذي يظهر من الألفاظ أنه لما ذكر بعض الأحبار والرهبان الآكلين المال بالباطل ذكر بعد ذلك مقولة نقص الكانزين المانعين حق المال.
وقرأ : "الذين يكنزون" بغير واو، و"يكنزون" معناه: يجمعون ويحفظون في الأوعية، ومنه قول طلحة بن مصرف المنخل الهذلي :
لا در دري إن أطعمت جائعهم ... قرف الحتي وعندي البر مكنوز
أي محفوظ في أوعيته، وليس من شروط الكنز الدفن لكن كثر في حفظة المال أن يدفنوه حتى تعورف في المدفون اسم الكنز، ومن اللفظة قولهم: "رجل مكتنز الخلق" أي مجتمع، ومنه قول الراجز:
[ ص: 302 ]
على شديد لحمه كناز ... بات ينزيني على أوفاز
والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه، ولذلك قال كثير من العلماء: الكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته وإن كان على وجه الأرض، وأما المدفون إذا أخرجت زكاته فليس بكنز كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل ما أديت زكاته فليس بكنز" ، وهذه الألفاظ مشهورة عن رضي الله عنهما، وروي هذا القول عن ابن عمر ، عكرمة ، والشعبي ، والسدي ، وجمهور أهل العلم. وقال ومالك رضي الله عنه: "أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة، وما زاد عليها فهو كنز وإن أديت زكاته". وقال علي بن أبي طالب وجماعة معه: "ما فضل من مال الرجل عن حاجة نفسه فهو كنز"، وهذان القولان يقتضيان أن الذم في حبس المال لا في منع زكاته فقط، ولكن قال أبو ذر رضي الله عنه: هي منسوخة بقوله: عمر بن عبد العزيز خذ من أموالهم صدقة فأتى فرض الزكاة على هذا كله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
كان مضمن الآية: "لا تجمعوا مالا فتعذبوا" فنسخه التقرير الذي في قوله: خذ من أموالهم . والضمير في قوله: "ينفقونها" يجوز أن يعود على الأموال والكنوز التي يتضمنها المعنى، ويجوز أن يعود على الذهب والفضة إذ هما أنواع، وقيل: عاد على الفضة واكتفي بضمير الواحد عن ضمير الآخر إذا أفهمه المعنى، وهذا نحو قول الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
[ ص: 303 ] ونحو قول : حسان
إن شرخ الشباب والشعر الأسـ ... ود ما لم يعاص كان جنونا
يكره هذا في الكلام، وقد شبه كثير من المفسرين هذه الآية بقوله تعالى: وسيبويه وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ، وهي لا تشبهها لأن "أو" قد فصلت التجارة عن اللهو وحسنت عود الضمير على أحدهما دون الآخر.
والذهب يؤنث وتذكر والتأنيث أشهر، وروي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: قد ذم الله كسب الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير حتى نكسبه، فقال رضي الله عنه: أنا أسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسأله، فقال: "لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة تعين المؤمن على دينه" عمر . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت الآية: "تبا للذهب تبا للفضة" ، فحينئذ أشفق أصحابه وقالوا ما تقدم.
والفاء في قوله: فبشرهم جواب لما في قوله: ( والذين ) من معنى الشرط، وجاءت البشارة مع العذاب لما وقع التصريح بالعذاب، وذلك أن البشارة تقيد بالخير والشر فإذا أطلقت لم تحمل إلا على الخير فقط، وقيل: بل هي أبدا للخير فمتى قيدت بشر فإنما المعنى: أقم لهم البشارة عذابا أليما، وهذا نحو قول الشاعر :
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع
[ ص: 304 ] وقوله تعالى: يوم يحمى عليها الآية. "يوم" ظرف والعامل فيه "أليم". وقرأ جمهور الناس: "يحمى" بالياء بمعنى: تحمى الوقود، وقرأ : "تحمى" بالتاء من فوق بمعنى: تحمى النار، والضمير في "عليها" عائد على الكنوز أو الأموال حسبما تقدم. الحسن بن أبي الحسن
وقرأ قوم "جباهم" بالإدغام وأشموها الضم، حكاه . أبو حاتم
ووردت أحاديث كثيرة في معنى هذه الآية من الوعيد لكنها مفسرة في منع الزكاة فقط لا في كسب المال الحلال وحفظه، ويؤيد ذلك حال الصحابة وأموالهم رضي الله عنهم، فمن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: الحديث. وأسند "من ترك بعده كنزا لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع" قال: الطبري من فضة فنهاه أبي هريرة ، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها"، أبو ذر وأسند إلى كان نعل سيف قال: أبي أمامة الباهلي "مات رجل من أهل الصفة فوجد في بردته دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كية، ثم مات آخر فوجد له ديناران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيتان".
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا إما لأنهما كانا يعيشان من الصدقات وعندهما التبر، وإما لأن هذا كان في صدر الإسلام، ثم قرر الشرع ضبط المال وأداء حقه، ولو كان ضبط المال ممنوعا لكان حقه أن يخرج كله لا زكاته فقط، وليس في الأمة من يلزم هذا. [ ص: 305 ] وقوله: هذا ما كنزتم إشارة إلى المال الذي يكو ى به، ويحتمل أن يكون إلى الفعل النازل بهم، أي: هذا جزاء ما كنزتم، وقال : والله لا يمس دينار دينارا، بل يمد الجلد حتى يكوى بكل دينار وبكل درهم، وقال ابن مسعود : دخلت الأحنف بن قيس مسجد المدينة وإذا رجل خشن الهيئة رثها يطوف في الحلق وهو يقول: بشر أصحاب الكنوز بكي في جباههم وجنوبهم وظهورهم، ثم انطلق يتذمر وهو يقول: وما عسى تصنع في قريش.